عبدالله الأسمري
الشعور الذي يعيشه الإنسان عندما يرى ثقافته تتجسد أمامه على الشاشة الكبيرة هو شعور استثنائي. يضيف بعدًا خاصًا للتجربة السينمائية ويجعلها أقرب للروح، حيث ينشأ نوع من الألفة بين رواد القاعة المظلمة والشاشة التي تحكي لهم عن أنفسهم هذا الشعور، الذي كان غائبًا عن المجتمع السعودي لفترة طويلة، حتى أُعِيد فتح صالات السينما عام 2018، ومنذ ذلك الحين، بدأنا نشهد حركة سينمائية محلية واضحة المعالم، تهدف إلى استنباط ملامح المجتمع السعودي وعكسها على الشاشة، ولكن رغم تعدد المحاولات السينمائية، لم ينجح أي فيلم في فك وتحليل تعقيدات المجتمع كما فعل فيلم «هوبال»، فهو تجربة سينمائية غنية ومكثفة عن نماذج لشخصيات وحكايات، سمعنا عنها أو عشناها بأنفسنا. ولذلك كافأ الجمهور هذا الفيلم بإقبال كبير على صالات العرض، حيث حصد في أسبوعه الأول ما يقارب 200 ألف تذكرة رغم ابتعاده عن القالب التجاري التقليدي.
للساعة علامات
تبدأ أحداث الفيلم عندما يقتنع الجد ليام «إبراهيم الحساوي» بأن يوم القيامة اقترب، وبدأ يتطاول الحفاة العراة في البنيان. فيقرر أخذ عائلته والفرار بهم إلى مكان بعيد عن مغريات المدينة التي يراها مصدر الفساد والانحلال. هنا تنطلق الحبكة من هذا الشرط الذي وضعه الجد، لكن كما نعلم القصص التي تبدأ بشرط لا بدَّ أن تقودنا إلى صراع يُكسر فيه هذا الشرط. ولم يحاول كاتب الفيلم مفرج المجفل إخفاء ذلك، بل جعل التناقض بين حياة البادية والاحتياجات التي تفرضها المدينة جزءًا أساسيًا من القصة، فالجد ليام يحاول التمسك بمبادئه القديمة، ولكنه يُجبر على الاستفادة من مزايا المدينة، ما يؤدي إلى صدام داخلي وخارجي مع أفراد عائلته.
العلاقات الإنسانية في ظل القسوة
منذ الافتتاحية نعي جيدًا أن الفيلم لا تدور أحداثه حول حبكة مفاجئة أو منعطفات درامية مثيرة، بل تقدم لوحة إنسانية معقدة لعائلة تبحث عن الانسجام وسط تحديات قاسية، سواء من البيئة الصحراوية أو من معتقدات الجد المتزمتة. العلاقات بين أفراد الأسرة غنية بالتفاصيل، ولكل شخصية قصتها الخاصة التي تستحق أن تُروى على حدة. فمن شنار «مشعل المطيري» صاحب النفس الدنيئة الذي يظل وفيًا لمعتقدات الأب طالما أنها تخدم أغراضه، وسرا «ميلا الزهراني» الأم التي تعيش ألمًا مستمرًا وهي ترى مصير ابنتها يتجه نحو مأساة حتمية، رغم وجود حل على مقربة من معزلهم. وأيضًا الأطفال وما يمثلونه من بُعد عاطفي، حيث يعكسون براءة تُضاف إلى القصة المنسوجة بعناية بصرية فائقة.
عساف.. منظور القصة وقلبها النابض
في النصف الأول من الفيلم تكاد العلاقات بين هذه الأسرة الكبيرة في فضاء الصحراء الواسع، أمرًا قد لا تخرج منه بفهم واضح لطبيعة العلاقات بينهم، ولكن إذا ما اعتبرنا أن الفيلم هو من منظور شخصية عساف ستصبح الأمور أبسط في إكمال رحلة الفيلم التي ابتدأت منذ وقت متأخر من قرار الجد ليام بالهجرة للبادية، فإن جميع هذه العلاقات المركبة كانت تنعكس على مصير عساف. فهو الطفل الأقرب إلى الجد، لكنه في الوقت نفسه أول من يجرؤ على كسر قواعده. عندما يأخذ عساف ريفة «أمل سامي» إلى المدينة للعلاج، ما سبَّب انكشاف ما كان يخفيه شنار في المدينة، كما أنه الابن الوحيد لماجد بن ليام أول من تمرد على قوانين الجد الذي تتكشف لنا قصته فيما بعد. ولهذه الأسباب السردية كان لا بدَّ أن تتمتع شخصية عساف بكتابه جيدة لتفاصيلها، وهذا ما برع فيه المجفل؛ إذ جعله يحظى بتطور أخاذ داخل أحداث الفيلم، كما قد فعل سابقًا مع شخصية «مطر وناقته حفيرة من فيلم هجان»، إضافة الى الاختيار الرائع من المخرج عبدالعزيز الشلاحي في تسكين الدور للممثل الموهوب «حمد فرحان» الذي سبق أن أبهرنا في فيلم “طريق الوادي”، وحتى نهاية الفيلم التي تعزز فرضية المنظور لعساف، حيث انتهى الفيلم بدفنه بعد ما لقي حتفه في الطريق للمدينة.
ختامًا، أثمرت ثنائية الشلاحي والمجفل عن فيلمين طويلين بارزين هما «حد الطار» و«المسافة صفر»، وقد حمل كل منهما جوانب تميز واضحة لهذا الثنائي، فلا تكاد تخلو أي قوائم تفضيل للأفلام المحلية من ذكر أحدهما. لكن بكل بساطة، يمكن القول إن “هوبال “يمثل ذروة التعاون بينهما، حيث جمعا فيه كل ما يميز أعمالهما السابقة ووضعاه في إطار مثالي. الحوارات التي كتبها المجفل، جاءت بوقع موسيقي جذاب، تمتاز بواقعيتها وبلاغتها التي تأسر أسماع المشاهدين وتبقى عالقة في أذهانهم. وهذا الإبداع اللغوي رافقته موسيقى تصويرية معبرة من إبداع «سعاد بو شناق»، التي أضافت بُعدًا شعوريًا قويًا للمشاهد. إلى جانب ذلك، قدرة الشلاحي في تقديم صور سينمائية مبهرة اختزلت تعقيدات القصة بسلاسة ودقة، مع الحفاظ على توازن رتم الفيلم طوال أحداثه. ولا يكتمل هذا الامتياز دون ذكر الأداءات الرائعة من طاقم التمثيل، الذين شكلوا حلقة وصل مثالية أكملت هذا العمل السينمائي المميز، معبرين عن التزام واضح وجهود استثنائية من قبل الممثلين والمخرج على حد سواء.