عبدالرحمن الغامدي
كم من مرة أجد نفسي بعد نهاية الفيلم أفكر فيما رأيته لبرهة من الوقت، وكم من أخرى أتوق للعودة إلى المنزل لإكمال لعبي لعبة فيديو شيقة، أو كم من مرة ألاحظ صديقي منغمسًا في حديثه المتواصل عن مسلسل تلفزيوني شاهده مؤخرًا.
في كل موقف، يطرأ عليَّ سؤال وجدت صعوبة شديدة في صياغته، بل وكنت أعتبره سؤالًا وجوديًا عميقًا لست بحاجة لأشغل عقلي بمحاولة البحث عن إجابته. ولكن ها أنذا أطرح عليك السؤال ذاته في هذه المقالة: لماذا نتعلق بالقصص؟
ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال، نحتاج لإعادة تصور ماهية القصة.
إن تناولنا ماهية القصة اصطلاحًا، فسنقول إنها عبارة عن سرد أو مجموعة من الأحداث (حقيقيةً كانت أو خيالية) يُعنى بها ترفيه، أو تثقيف، أو إرشاد جمهورٍ ما. تحتوي على شخصيات، ومكان وزمان، وحبكة تتعقد وتنكشف مع مرور الوقت.
وبحسب قاموس أكسفورد للمصطلحات الإنجليزية، فالقصة هي سرد لأحداث خيالية أو حقيقية تُروى للترفيه. ويعرّفها الروائي البريطاني “إدوارد مورغان فورستر” في كتابه “جوانب الرواية” من عام 1927 بأنها سردية للأحداث مرتبة حسب تسلسلها الزمني.
ولكن يبدو أن الأمر أعمق من مجرد مصطلح، فمن الجانب السايكولوجي والفلسفي يقول عالم النفس الأميركي “جيروم برونر” في كتابه “عقول حقيقية.. عوالم ممكنة”: نحن ننظم تجاربنا وذكرياتنا للأحداث الإنسانية بشكل رئيسي في شكل قصص سردية، وأعذار، وأساطير، وأسباب للقيام بشيءٍ ما أو عدم القيام به، وما إلى ذلك.
وإن كنت لا تزال تائهًا في الربط بين القصة والنفس البشرية، فإليك ما تقوله نظرية “النموذج السردي” لعالم الاتصال “والتر فيشر”: البشر هم رواة قصص بطبيعتهم، وعملية اتخاذنا للقرارات وتواصلنا تعتمد إلى حد كبير على سرد القصص، وأن القصة الجيدة أكثر إقناعًا من الحجة الجيدة.
الآن، قِس ذلك على جميع مجريات يومك، الأعمال التي قمت بها والأشخاص الذين تحدثت معهم والأماكن التي زرتها، الإعلانات التي شاهدتها والكتب التي قرأتها والذكريات التي استرجعتها، حتى آخر مرة أطعمت فيها حيوانك الأليف. إن حاولت أن تتخيل ذلك الكم من الأحداث في آخر أسبوعين من حياتك، فلن تستطيع استيعابها بالكامل، فكيف إن قلت لك إن هناك أكثر من ثمانية مليارات نسمة يشاركونك نفس الشعور؟ أو ما يعادل ثمانية مليارات قصة تتجدد يوميًا. فالحقيقة هي أن القصص ليست مجرد محتوى نستهلكه للمتعة المؤقتة، القصص متأصلة في ذواتنا وفيما نفعله طوال الوقت.
حتى على مر العصور، تشير الأبحاث في علم آثار الإنسان إلى أنه لطالما لعبت القصص دورًا أساسيًا في نمو البشرية، وتحديدًا في تطور مهارات التواصل والتكوين المجتمعي. ويصف “جوناثان جوتشال” باحث الأدب الأميركي رواية القصص بأنها جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان وغريزة إنسانية أساسية. وهنا أقتبس من جوتشال واحدة من أصدق المقولات التي قرأتها عندما قال: “نحن، كفصيلة البشر، مدمنون على القصص. فحتى عندما ينام الجسد، يظل العقل مستيقظًا طوال الليل، يروي لنفسه القصص”.
أعود بك الآن إلى سؤال البداية، ولكنني ما زلت غير متأكد من مدى سلامة صياغته، هل الكلمة الأنسب هي “كيف” أم “متى”؟ لولا الحاجة لإنهاء هذه المقالة لبقي ذهني عالقًا في هذه المتاهة أبد الدهر. ولكن لنفترض أن الصيغة ستبقى كما هي، وأفضّل أن تبقى الإجابة متمحورة حول الإنسان كراوٍ ومتلقٍ للقصص، حتى لا يستطيع صديقي التعذّر بمدى جودة مسلسله التلفزيوني الذي لا يترك حديثه المتواصل عنه.
بطبيعة الحال القصص تحمل عاطفة، والعاطفة هي قلب الإنسان، وتقع أهميتها هنا في إظهار الفرد العاطفة لقصة يتلقاها تحوي تفاصيل حياة فرد آخر، وهذا ما يُسمَّى بـ”نظرية العقل”، وهي المقدرة على تفسير أو توقع أفعال شخص آخر بشكل تلقائي وإدراك أنها تختلف عن أفعال الشخص نفسه (متلقي القصة)، حيث يمكنه أن يتصور نفسه في أماكن أشخاص آخرين للفهم والتنبؤ بأحاسيسهم وأفعالهم. فنظرية العقل أشبه بغريزة إنسانية تظهر لا إراديًا في سياق العلاقات الاجتماعية. وهناك من يعتقد أن القصص تعزز هذه الغريزة عندما تركز على الوصف المتعمق لمشاعر شخصياتها وأفكارها الداخلية، فبالتالي ينشأ اتصال عاطفي مباشر بينك وبين القصة التي تقرؤها، تشاهدها، تسمعها، أو تلعبها.
ولكن ماذا إن لم ينشأ ذلك الاتصال؟ هل العاطفة هي الوسيلة الوحيدة للتعلق بالقصة؟ هذا قد يبدو مماثلًا لكثير من الحالات التي تظهر فيها مفارقة بين محبة مجموعة من الناس لقصة معينة واستياء المجموعة الأخرى منها. ليس فقط لاختلاف الأذواق كما يظن الكثير، ولكن أيضًا لأن القصص ينعكس أثرها على العقل مثل القلب. فإن نظرنا إلى القصص كوسائط ترفيهية، فسنجد أنها تحفز العمليات المعرفية كالذاكرة والانتباه والتخيّل، وأن بعض القصص توفر مساحة للتمارين الذهنية التي يمكن أن تعزز من وظائف الدماغ. فلا أخفيك أنني في بعض الحالات أتخيل نهايات مختلفة أو خطًا زمنيًا مُغايرًا للقصة التي تلقيتها بعد انتهائها. ليس لأنني أجبرت نفسي على ذلك، بل لأن القصة أملت على عقلي السباحة في بحر الاحتمالات الشاسع وهو لا يشعر. وبالعودة لمثال المفارقة السابق بين المجموعتين، فلعلَّ القصة قدمت ما ترغب فيه المجموعة الأولى وهي العاطفة، ولكنها لم تحفز الأحاسيس الدماغية الممتعة عند المجموعة الثانية، والعكس صحيح.
آمل أن نبدأ جميعنا باستشعار تناغم القصص في أيامنا، وأن تكون مثلي قد استوعبتَ للتوِّ الدور العظيم للقصص على لحظات حياتك، وحتى لحظة قراءتك لهذه الختامية ويقينك التام أن ما قرأته للتوِّ يعتبر قصة خلفها قصصٌ جمَّة.