عبدالله الدحيلان
يعيش المرء ما قُدِرَ له من سنوات عمره يقاتل على عدة جبهات، ويخلص في النهاية إلى أنه استهلك نفسه في معارك لم يكن بحاجة ماسة إليها، ولو غض الطرف عنها لما تغيرت حياته كثيرًا؛ لكونها معارك مرهقة، وأثرها الوحيد هو استنزاف طاقته دون عائد يذكر. وبجوار هذه المعارك غير المجدية، تبقى هناك معارك مفصلية لا بدَّ من خوضها مهما كلف الأمر؛ لما تحمله من مسارات مصيرية تحدد ملامح المستقبل، وهي معارك مُعقدة ولها خاصية الانشطار والتمدد ما بين النفس والمجتمع ومصادر الرزق. وهذا الانشطار يجعلها في غالب الأحيان كالخيوط المتشابكة التي لا تنسلُ إحداها دون الأخرى، وهذا ما يمنحها أهمية تفوق غيرها بضرورة مواجهتها والعمل على حلّها.
فيلم «الرحلة 404» الذي قام بكتابته محمد رجاء وأخرجه هاني خليفة، جسّد عبر حبكة درامية عالية الفنية معركة مفصلية قد لا تخلو منها حياة أيٍّ منَّا، ألا وهي معركة مع تبعات الماضي ومآلاته على الحاضر ووقوفه كحجر عثرة أمام بناء مستقبل عنوانه «الاستقرار النفسي والتصالح مع الذات». لقد تمكن صُنّاع الفيلم من التقاط لحظة غاية في الحساسية ووضع المشاهد أمام نفسه قبل أن يكون وجهًا لوجه أمام الفنانة منى زكي عبر الشاشة الكبيرة، فيعيش معها التفاصيل، ويسأل ويجيب ويصارع الحدث ويجاوز العقبات تارة، ويسقط فيها دون أي حيلة منه تارة أخرى.
مرد هذا الانسجام الذي يدفعك إليه صنّاع الفيلم منحنيان: فني وأخلاقي. أمَّا الفني، فعبر تصاعد الأحداث كما ينبغي لها ضمن معايير الفيلم السينمائي؛ إذ يبدأ الفيلم في قلب الحدث الرئيسي، حيث تقرر «غادة»، بطلة الفيلم، الذهاب إلى الحج برفقة والدها المنفصل عن أمها، فتظهر الأخيرة للمطالبة بدفعات مالية أمام مقر عمل ابنتها، والتي تدّعي عدم امتلاكها للمال بحجة إنفاق أموالها على رحلة الحج، وعند محاولتها التملص منها يقع حادث سيارة تنقل على أثره الأم إلى المستشفى، ومنذ ذلك المشهد تبدأ غادة في البحث عن سبل دفع تكاليف العملية والإقامة الباهظة، ومعها تنفتح أبواب الماضي على مصراعيها، ونتعرف من خلالها أن من ستذهب إلى الحج بعد بضعة أيام كانت في الأصل بائعة هوى. بالإضافة إلى الحبكة المُتقنة، فقد امتاز الفيلم بمجموعة من الحوارات التي رفعت من مستوى الحدث بين الشخصيات، حيث يندر أن يكون هناك مشهد فارق في سير خط الأحداث ويخلو من حوار مُحمل بالأفكار والمضامين التي تكشف الخلفية التي تتكأ عليها كل شخصية، كما أنها مُشبعة بمجموعة من التساؤلات الفلسفية والأخلاقية حول: الحياة، والموت، والدين، والجسد، والمال.
أمَّا المنحى الأخلاقي في الفيلم، الذي أبدع الممثلون فيه بتجسيد أدوارهم بكل اقتدار، فإنه يطرح أمام مشاهديه سيلًا من الإشكاليات التي ليس من السهل تجاوزها؛ بخاصة أننا لسنا أمام طلب التوبة والغفران في الحالة الطبيعية، بل في لحظة لا يعود فيها الناس كما كانوا قبلها، ألا وهي فريضة الحج. إن مجموعة الدلالات التي تم اختيارها عمّقت من قيمة الفيلم لدى المتلقي. ففي الوقت الذي تخضع الأفلام لدى النقاد عادة إلى اشتراطات فنية صارمة؛ بناء على معاييرهم وما تراكم لديهم من خبرة في المشاهدة والمطالعة بغية الخروج بحكمٍ غير متأثر بالعاطفة والتقييم الشخصي للفيلم، نجد أن المتلقي معني بقدرة الفيلم على ملامسة وجدانه والسيطرة على مشاعره وخياله لأطول فترة ممكنة، ما يجعله مستلبًا للسحر الذي يشاهده على هيئة فيلم سينمائي، وهذا يتطلب تكامل عناصر الجذب الذهني مع الإدهاش الفني الجمالي. وحتى يتم جمع هذه التركيبة بكل تفاصيله، فلا بدَّ من التفاني في كتابة العمل وتطويره ليتوافق مع مراحل تطور السينما المتسارعة، وهذا ما نجح فيه الفيلم إلى حد كبير.
ساهم «رحلة 404» من خلال جودته الفنية العالية وموضوعه الحساس في فتح آفاق النقاش والجدل المفاهيمي وإعادة محورية السينما المصرية في الشارع، بحيث ينزل إلى التداول العام؛ بخاصة بعد عرضه في إحدى المنصات الرقمية، وهذا ما يُحسب لصنّاع الفيلم بتنفيذ عمل إبداعي ذي قيمة مضافة في موضوع إشكالي والقفز على الخطوط الحمراء برشاقة دون المساس بها، تمامًا كعدد من الأفلام المشابهة له من ناحية الموضوع وكانت علامة فارقة في زمنها وعاشت حتى الآن، مثل: «الراقصة والسياسي»، و«كشف المستور».. وغيرهما.