روجر إيبرت
توفي السير ألفريد هيتشكوك في منزله عن عمر ناهز 80 عامًا، بعد مسيرة مهنية امتدت على مدى فترة السينما الصامتة والصوتية، وأسرت وأدهشت جماهير السينما وأسعدتهم في جميع أنحاء العالم.
لم تكن وفاته التي جاءت لأسباب طبيعية أمرًا مفاجئًا في مجتمع هوليوود، إذ تدهورت الحالة الصحية للسيد هيتشكوك على مدار أربع سنوات، لا سيما وأنه كان يتلعثم في حديثه بشكل واضح خلال حصوله على جائزة الإنجاز الفني مدى الحياة من معهد الفيلم الأميركي. ومع ذلك، رفض إعلان اعتزاله، إذ كان يعد فيلمًا جديدًا بعنوان «The Short Night» وقت وفاته، وهو الفيلم رقم 55 في مسيرته.
كان واحدًا من أشهر مخرجي الأفلام. وكان الجميع يعرفه من محياه الممتلئ والملائكي بفضل زياراته القصيرة لمعظم أفلامه بجانب ظهوره المروع كمضيف لمسلسله التلفزيوني الشهير، الذي استمر عرضه من عام 1955 إلى عام 1965. كان اسم السيد هيتشكوك فوق العنوان كافيًا لجذب الجماهير إلى المسرح بتيقن من الحصول على الكثير من التشويق الراقي ورفيع المستوى.
على الرغم من أن اسمه كان كافيًا لإقبال الناس على شراء التذاكر، فقد دئب السيد هيتشكوك على الاستعانة دائمًا بنجوم كبار في أفلامه، وهو ما علق عليه قائلًا بأن صور هذه النجوم وفرت عليه الوقت لأنه لم يكن عليه أن يبدأ أفلامه بتقديمهم. وسبق له إخراج بعض من أشهر أعمال كاري جرانت «North by Northwest»، وجيمس ستيوارت «Rear Window»، وإنغريد بيرجمان «Notorious»، وجريس كيلي «To Catch a Thief»، وأنتوني بيركنز «Psycho» ولورانس أوليفييه «Rebecca».
وتروي جانيت لي، التي لن ننساها أبدًا بسبب موتها المروع طعنًا بالسكين في مشهد الاستحمام في فيلم «Psycho»، أن لن تنسى السيد هيتشكوك بسبب روح الدعابة لديه:
«كلما رأينا بعضنا بعض، كان لديه قصة صغيرة رائعة يرويها، وبالتأكيد كان ملكًا في مهنته».
بلغت أفلام السيد هيتشكوك 54 فيلمًا، بدأت بأعمال درامية قصيرة صامتة تم إخراجها في مسقط رأسه لندن، وانتهت بفيلم Family Plot، الذي صدر في عام 1976. بدأ في صناعة السينما البريطانية كفنان يعمل في تزيين بطاقات عناوين الأفلام الصامتة، وبحلول نهاية مسيرته المهنية التي استمرت 55 عامًا، اتفق الجميع بوجه عام على أنه أحد أعظم صناع الأفلام في كل العصور. لم يفز أبدًا بجائزة الأوسكار كأفضل مخرج على الرغم من ترشيحه أربع مرات وحصول فيلمه Rebecca على لقب أفضل فيلم لعام 1940، وهو العام نفسه الذي انتقل فيه إلى أميركا. ورغم حصوله على الجنسية الأميركية في عام 1955، فإن أعظم تكريم حصل عليه كان وسام الفروسية البريطاني الذي منحته إياه الملكة إليزابيث في 31 ديسمبر 1979 باعتباره أحد مواطنيها البريطانيين. لم يتمكن من السفر إلى إنجلترا لينال لقب الفروسية بسبب سوء حالته الصحية، إذ كان يعاني من أمراض عدة من بينها التهاب المفاصل وأمراض الكلى وضعف قلبه الذي كان يعمل بمساعدة جهاز تنظيم ضربات القلب.
كان ألفريد هيتشكوك يحب الخصوصية لأقصى حد، إذ كان يفضل قضاء أمسياته في المنزل مع زوجته ألما التي عاشت معه لأكثر من نصف قرن. وهي التي كانت بجانب فراشه في ضاحية بيل في لوس أنجلوس عندما توفي بصحبة ابنتهما باتريشيا وثلاثة أحفاد آخرين.
برز اسم السيد هيتشكوك، وهو ابن بقال الخضروات في لندن، كشخصية تحظى بالاحترام والتقدير في هوليوود، ذلك المكان المفعم بالغرابة. وبحسب ما جاء في سيرته الذاتية التي كتبها جون راسل تايلور «فقد كان رجلًا إنجليزيًا صريحًا من الطبقة الوسطى تصادف أنه يمتلك عبقرية فنية». وكان دومًا حريصًا على ارتداء ملابس تضاهي ملابس متعهدي دفن الموتى، سواء صيفًا أو شتاءً أو في أي مكان، إذ كان يرتدي بدلة سوداء مع قميص أبيض وربطة عنق سوداء.
ودأب على ارتداء طقم الملابس نفسه خلال مشاهد ظهوره السريع والخاطف في جميع أفلامه تقريبًا. وبعدما حظيت مشاركاته الصغيرة تلك بالشهرة، حرص على أن تكون في بداية أفلامه، حتى لا تتسبب مشاهدته تشتيت انتباه الجمهور. فهو ذلك الرجل الذي كان يصطحب كلبين صغيرين، أو تلك الشخصية الممتلئة التي كانت تجد صعوبة في إخراج آلة التشيلو من الباب الدوار، أو ذلك الرجل الذي كان ينتظر الحافلة، أو تلك الجثة التي تم انتشالها من النهر.
وجاءت أشهر مشاركاته الصغيرة والمبدعة في فيلم Lifeboat لعام 1943، إذ لم يكن إحدى شخصيات قارب النجاة، وإنما ظهر على هيئة كل من الظلال قبل وبعد، في أحد إعلانات نزول الوزن بإحدى الصحف التي توضح حالته قبل وبعد تناول المستحضر.
ولعل فيلمه الأشهر هو فيلم Psycho، وهو فيلم إثارة صدر في عام 1960 والذي ضم مشهدًا شنيعًا لا ينسى طعنت فيه لي حتى الموت خلال الاستحمام، والذي اكتشفنا فيه أن بيركنز، ذلك المحنط الهاوي، قام بتحنيط والدته المتوفية. أدى هذا الفيلم إلى ظهور أحد المواقف الكلاسيكية الشهيرة عن هيتشكوك، إذ كتب له أحد المعجبين: «بعدما شاهدت ابنتي فيلم Diabolique كانت تخاف من الذهاب إلى الاستحمام، ولكنها الآن بعدما شاهدت فيلم Psycho صارت تخشى من دخول الحمام من الأساس، فماذا عليّ فعله؟ فرد عليه السيد هيتشكوك قائلًا: «أرسلها إلى التنظيف الجاف».
وأكثر موقف مألوف في أفلام هيتشكوك هي سردية ذلك الرجل الذي اتهم بارتكاب جريمة وهو بريء منها ويعجز عن الدفاع عن نفسه، وشاهدنا تلك السردية في أفلام مثل The Wrong Man لعام 1957، وNorth by Northwest لعام 1959، وFrenzy لعام 1972.
ونبعت فكرة هذا الموضوع من حادثة مؤلمة تعرض لها السيد هيتشكوك في طفولته، إذ صدرت عنه بعض التصرفات السيئة، فأرسله والده إلى أقرب مركز للشرطة مع رسالة من والده لرجال الشرطة. وعندما قرأ أحد الضباط الرسالة حبس الصبي الصغير في زنزانة وقال: «هذا ما نفعله بالأولاد المشاغبين». وبحلول الوقت الذي أتى فيه والده وأعاده، كان السيد هيتشكوك قد اكتسب رهاب الذنب المرتبط برجال الشرطة ليظل معه مدى الحياة، حتى أنه تجنب قيادة السيارات خوفًا من أن توقفه الشرطة. كان السيد هيتشكوك معروفًا بأنه أحد أكثر العاملين دقة في صناعة السينما، وتعد أساليبه في إعداد السيناريو بمنزلة الأسطورة، إذ كان يقوم بتفصيل كل لقطة وموضع للكاميرا، بل ووظف رسام كاريكاتير لرسم المشاهد.
وكان عندما ينتهي من كتابة أحد السيناريوهات يقول «أنا لا أنظر إلى السيناريو أثناء التصوير، فأنا أحفظه عن ظهر قلب، مثل قائد الأوركسترا الذي لا يحتاج إلى النظر إلى نوتته الموسيقية. إن تصوير الأفلام أمر كئيب في حد ذاته. لذلك، عندما أنتهي من كتابة السيناريو، أرى أن الفيلم في وضع مثالي ولكن عند تصويره أفقد ربما 40% من تصوري الأصلي له».
ورفض هيتشكوك مناقشة مواضيع ورسائل ومعاني أفلامه، إن وجدت، فنجده يتجنب الأسئلة الفلسفية لمعجبه الكبير، فرانسوا تروفو، المخرج الفرنسي، في المقابلة المطولة التي أجروها قبل 13 عامًا.
كان يفضل القول بأنه يريد «العزف على الجمهور مثل البيانو»، حتى يثير المشاعر والإثارة المنشودة من خلال التلاعب بصور الشاشة. وادعى، ربما بسخرية، أنه لا يهتم كثيرًا بالممثلين، ونُقل عنه وصفهم بالماشية ولكنه صحح الاقتباس قائلًا: «بل يجب معاملتهم مثل الماشية».
تم إنتاج أول أفلامه العظيمة في إنجلترا في ثلاثينيات القرن العشرين. وبعد أن أنتج Rebecca قرر البقاء في أميركا وأنتج أعظم أفلامه، بدءًا من Foreign Corespondent في عام 1940، وNorth by Northwest الذي تم تصويره جزئيًا في شيكاغو في عام 1959. من بين أفلامه اللاحقة، اعتقد النقاد أن فيلم Frenzy لعام 1972 يصنف ضمن أفضل أعماله، إلا أن فيلمه الأخير Family Plot لعام 1976 كان مخيبًا للآمال.
نشر تايلور السيرة الذاتية المعتمدة للسيد هيتشكوك، بعنوان Hitch في عام 1979 الذي زعم أن ظهوره التلفزيوني ومشاهده السينمائية القصيرة والهيئة الكاريكاتورية الشهيرة والبسيطة والمخادعة التي رسمها لنفسه جعلته «أكثر شخص معروف في جميع أنحاء العالم». وفي محادثة هاتفية عام 1979، سألته عن رده على ذلك، فأجاب بنبرة رتيبة: «أود أن أقول إن هناك بعض الحقيقة في ذلك».
المصدر: rogerebert