د. وليد سيف
على الرغم من حلول ذكرى وفاته الثامنة في 11 أغسطس فإنَّ الفنان نور الشريف ما زال حاضرًا بيننا ليس فقط من خلال أدواره الراسخة في ذاكرة السينما وجماهيرها، ولكن أيضًا من خلال كم المقالات والبرامج والشهادات التي تنشر سنويًّا في موعد ذكراه، قد يتساءل البعض خاصة من الأجيال الأحدث لماذا نور دون غيره يحظى بكل هذا الكم من الولاء والإعجاب والإشادة؟
كانت بدايات ظهور الفتى المكافح ابن حي السيدة زينب الشعبي «كومبارس» في أثناء دراسته في معهد الفنون المسرحية ليوفر مصروفاته ويكتسب الخبرة، كان ذلك في عدة أعمال في المسرح والتليفزيون، ثم جاءت فرصته الذهبية الأولى في مسلسل القاهرة والناس 1968.
كانت أسرة المسلسل شبيهة بأسرنا البسيطة، في القلب كان نور الذي خطف القلوب بابتسامته الجميلة وإحساسه الحار، كما أثار التعاطف الشديد مع أزمته في دور تلميذ فاشل في الثانوية العامة، لا يعرف مشكلته ويبحث عن طريق بديل، ككل شباب جيله الحائر.
في أثناء عرض مشروع تخرُّجه في المعهد في دور هاملت شاهده عادل إمام الذي سبقه في عالم الاحتراف، فأُعجب بأدائه بشدة ورشّحه للمخرج حسن الإمام الذي كان يبحث عن وجه جديد لدور كمال عبد الجواد في فيلم «قصر الشوق».
في «قصر الشوق» لعب نور دورًا مختلفًا تمامًا، فهو الرومانسي الخجول المتأمل الذي يعاني قهرَ الأب ويحمل على عاتقه طموحات الأسرة في مستقبل أفضل بعد وفاة شقيقه الأكبر.
لكن كمال آماله تتجاوز النجاحات الصغيرة ويحلق في عالم الفلسفة، ويفعلها نور وينجح في الدور الصعب بامتياز رغم قلة خبرته، ويحصل عنه على شهادة تقدير من وزارة الثقافة، فكانت أول جائزة يحصل عليها في حياته الفنية التي سوف تكون حافلة بالجوائز.
سرعان ما يتحول الشاب نور، إلى نجم لا يشق له غبار، نجم كانت السينما تبحث عنه، فمنذ عقد وأكثر لم تكن السينما قدمت وجهًا جديدًا بعد جيل عمر الشريف وأحمد رمزي وحسن يوسف، كانت أيضًا في حاجة إلى ممثل مختلف أكثر طبيعيةً وأكثر شبهًا وقُربًا من أجيال جديدة من جمهورها من الشباب.
يواصل مسيرته مع الأفلام المهمة والأدوار الصعبة مثل كامل رؤبا لاظ الشاب المعقد نفسيًّا في «السراب» 1970 والشاب الطيب البريء المولع بحكايات رئيسه في العمل محمود مرسي عن مغامراته العاطفية في «زوجتي والكلب» 1971 لسعيد مرزوق، والمستهتر الذي يتسبب في انهيار عائلته في «كلمة شرف» 1972 لحسام الدين مصطفى، وغيرها من الأفلام التي عمل فيها منذ بداياته مع كبار المخرجين والنجوم.
ثم يوظف نجوميته واسمه الذي يرتبط في أذهان الجماهير بأفلام تُمتعهم وتحترم عقولهم ليقف إلى جوار مخرجين جُدد في أعمالهم الأولى سيحدثون انقلابًا في مسار السينما المصرية؛ فمع داوود عبد السيد يشارك في بطولة باكورة أعماله «الصعاليك»، ومع عاطف الطيب سيخوضان مسيرة طويلة تبدأ بفيلم «الغيرة القاتلة» ثم التحفة الرائعة «سواق الأوتوبيس».
بفضل ثقافته وموهبته وجدّيته يُصبح نور أيقونة الأداء الرفيع والتعبير ببساطة وصدق وقدرة فذة على الأحاسيس الداخلية ويتميز عن أبناء جيله بأنه أكثرهم حرفيةً وعُمقًا في التعبير عن دخائل شخصيات مختلفة ومتنوعة يؤديها بمهارة ووعي، ويصبح أداؤه علامةً مضيئةً في أي فيلم يشارك فيه، وينضم إلى القلة النادرة من هؤلاء الأفذاذ، كان نور يدرك أنَّ الفن رسالة وأن دوره كفنان مثقّف أن يشارك في كل ما من شأنه أن يسهم في تنوير الجماهير.
بعيدًا عن الهم الاجتماعي كان ابن الحارة المصرية يُدرك أنه ليس عليه فقط أن يشارك في أفلام تنمي الوعي وترفع من الذائقة الفنية لدى المشاهد لكن عليه أيضًا أن يمتع جماهيره ويسليهم بأفلام جماهيرية محكمة الصنع فبهَرنا بأدائه المتقن في أفلام الحركة مثل «131 أشغال» و«عفريت النهار» وبرقّته وعذوبته في رومانسيات مثل «حبيبي دائمًا» و«كل هذا الحب» كما أضحكنا في كوميديات مثل «البعض يذهب للمأذون مرتين» و«غريب في بيتي».
كان أيضًا على جانب آخر يشارك في تجارب فنية صعبة وجريئة ومختلفة يعلم أن من خلال طزاجتها وفكرها الحُر وروحها المبتكرة تجدد السينما ثوبها وتستشرف آفاقًا جديدة وتسير في دروب مختلفة، حتى لو لم يكن من المتوقع لها نجاحٌ جماهيريٌّ في عرضها الأول، فإنّها تُمهّد لمستقبل وخيال سينمائي جديد. ومن هذه الأعمال «البحث عن سيد مرزوق» لداوود عبد السيد و«قلب الليل» لعاطف الطيب و«وصمة عار» لأشرف فهمي وغيرهم.
في آخر أدواره في فيلم «بتوقيت القاهرة» إخراج أمير رمسيس يظهر نور في شخصية العجوز المصاب بألزهايمر، يقدم رغم آلام المرض الذي كان يعانيه درسًا في فن التمثيل، وفي قدرة الممثل على أن يتماهى مع الشخصية وأن يتلبس روحها ويطوع جسده لحركتها ويشكل وجهه بملامحها، كأن آلام نور الكبيرة وخبراته الحياتية الطويلة كانت زاده الحقيقي في تشكيل هذا الوجه الحقيقي.
إلى جانب عمله في السينما كبطل لأكثر من مائة وثمانين فيلمًا، فإن بطولاته في المسلسلات التليفزيونية تتجاوز الثلاثين، تُمثل معظمها أرقى مستويات الدراما التليفزيونية، منها «عمر بن عبد العزيز» و«الحرافيش» و«لن أعيش في جلباب أبي»، كما أن إسهاماته في المسرح ليست قليلة فهي تتجاوز الخمسة عشر عملاً مسرحيًّا متميزًا في المسرح المصري، منها «يا مسافر وحدك»، و«بكالوريوس في حكم الشعوب»، و«سهرة مع الحكومة».
في رأيي أن الماكياج الخارجي للشخصية من ملبس ولكْنَة ومظهر لم تكن هي شاغله الأساسي فهي الأمور الأسهل لممثل عالي الموهبة، لكن الأهم بالنسبة له كانت الجوانب الشعورية والانفعالية التي لا تجعل من الطبيب نمطًا ولا من اللّص صورة كربونية تقليدية ولا من رجل الأعمال وجهًا مسطّحًا باردًا بلا ملامح مميزة لكل مرة قدمه فيها، فهو لا يتعامل مع الشخصيات غالبًا من منطلق أحادي البُعد.
رحل نور عن عالمنا في 11 أغسطس 2015 لكنه سوف يظل الضوء والأمل لأجيال عديدة من أولاد حارتنا وبلادنا كلّها بسيرة كفاحه ورحلة نجاحه وأدواره التي لن تُمحَى من ذاكرة السينما، فقد كانت قصة صعود نور الشريف الفتى اليتيم الفقير في سماء الفن هي شحنة الوقود والطاقة التي منحتنا الأمل في أنّ أيًّا منّا نحن أبناء الحي الشعبي البسطاء يمكن أن يكون نجمًا لو كانت لديه موهبة وإصرار وذكاء نور.
رغمًا عن الرحيل سوف يظل نور بفنه وسيرته نموذجًا في الموهبة والكفاح والعمل بإصرار وحب وعن رغبة صادقة في العطاء لتنوير أبناء الوطن العربي الكبير وإمتاعهم بالفن الراقي وتنمية وعيهم وثقافتهم.
قدمت السينما المصرية عبر مسيرتها الطويلة كثيرًا من النجوم، امتلك بعضهم موهبة استثنائية في التمثيل وأمكن لبعضهم أن يحافظوا على مستوى راقيًا في اختياراتهم لأعمالهم وأدوارهم، وتمكَّنت قلة منهم من أن تعبر في غالبية أعمالها عن ثقافتها وقناعاتها السياسية والفكرية، لكن «نور الشريف» وحده هو الذى أمكنه أن يجمع كل هذه الصفات، بل أن يحافظ على مكانته الجماهيرية بكل هذه الشروط لما يقرب من نصف قرن.