ترجمة: شيماء بنخدة
الأفلام التي تم إصدارها في الشهرين الماضيين لا تستحق أي اهتمام من الجمهور. وبما أن مسألة الحصص لم يتم حلها بعد، فإن الموزعين الأميركيين يكتفون ببساطة بإعادة إصدار الأفلام القديمة. وبالتالي فإن جميع الأفلام الجديدة تقريبًا هي فرنسية، بعد عامين من تحرير فرنسا، يجد الجمهور نفسه، وبشكل متناقض، في وضع يشبه إلى حد ما ذلك الذي عاشه أثناء الاحتلال الألماني: احتكار سينمائي تقريبًا. قد يكون للإلغاء الجزئي للمنافسة مزايا، نوعية الإنتاج الفرنسي بين عامي 1940 و1944 تثبت ذلك، ولكن فقط إذا لم يستمر لفترة طويلة، والأهم من ذلك، إذا كانت صناعة السينما لديها الوسائل اللازمة للاستفادة من هذه «الاستراحة».
للأسف، يبدو وأن صناعتنا لا تمتلك هذه الوسائل، لأنها لم تعد قادرة على الاستغناء عن استيراد معدات جديدة تمامًا أو تصدير منتجاتها، والتي لا تكون مجدية ماليًا عندما تقتصر فقط على السوق الوطنية الخاصة بها. فيملك الذي يبلغ متوسط تكاليفه عشرين مليون فرنك فرنسي لم يعد قادرًا على تحقيق النجاح في حلبة السينما الفرنسية. وهذا ما يفسر لماذا يتم إنتاج المزيد والمزيد من الأفلام في ظل ظروف صارمة لتوفير المال تتعارض تماما مع الحد الأدنى من المعايير الفنية؛ ولعل الملايين القليلة التي تم توفيرها على هذا النحو ستساعد في موازنة ميزانية المنتج. إن التعقيد وخطورة المشاكل التي تواجه صناعة السينما الفرنسية اليوم تتطلب سياسة محددة ومتماسكة يبدو أن السلطات المختصة غير قادرة على تصورها وتنفيذها. ولهذا السبب تموت السينما الفرنسية ببطء في الاستوديوهات التي تحصل على معداتها من أسواق السلع المستعملة المحلية، وبالتالي يتعين على بعض الفنيين الأكثر تأهيلا في العالم أن يسارعوا إلى لعب الدور الجنوني «للسيد. فيكس إت Mr.Fix it».
إن التأخير الذي يفرضه على إيقاع النشر في إحدى المجلات ربما يفسر لماذا لن أتحدث هذا الشهر عن ستة أفلام صدرت مؤخرًا والتي بالكاد يمكن وصفها بأنها لائقة: ليس لدي الكثير لأضيفه إلى ما كُتِبَ بالفعل. على الرغم من حواره، فإن فيلم «أريحا؛ Jéricho» لسنة 1946 ميلادية، من إخراج «هنري كافيل Herni Cafil»، هو بلا شك الأكثر احترامًا بين الحصاد الجديد. من جانبه، اقترب كل من «جورج لاكومب Georges Lacombe» وكاتب السيناريو خاصّته «بيير فيري Pieere Véry» من تحقيق النجاح في فيلم «أرض بلا نجوم The Land without Stars» لعام 1945، لكنهم في النهاية أضاعوا بصمتهم. على النقيض من ذلك، فإن تواضع فيلم «إغراء بارييزون Barbizon’s Temptation» للمخرج «جون ستيلي Jean Stelli» لعام 1945، وافتقاره إلى الطنانة، يمكن أن يكون بمثابة تفسير متعاطف للمتعة التي يمنحها لنا. على أي حال، هناك جانب جيد لإعادة إصدار الأفلام الأميركية القديمة: وسنتمكن من خلاله أن نشاهد مرة أخرى كلاّ من «المراعي الخضراء The Green Pastures» لعام 1936؛ إخراج «مارك كونلي وويليام كايلي Marc Connelly-William Keighly»، و«النّديب Scarface» لعام 1932؛ إخراج «هوارد هوكس Howard Hawks». لقد أنتج هذا الأخير في داخلي عاطفة قوية فريدة خلال الأسابيع الخمسة أو الستة الماضية، لذا سيعذرني القارئ على الخوض في تفاصيل إعادة اكتشافي لهذا الفيلم. فستظهر صفاته بارتياح غير عادي من مسافة قدرها أربعة عشر سنة.
الأمر اللافت للنظر في فيلم «النّديب» أو «سكارفيس» هو إدراكنا أنه سيكون سطحيًا لاعتباره مثالًا يحتذى به في عالم أفلام العصابات مثلما نرى في «ويليام فوكنر William Faulkner» مجرد روائي كاتب للرواية القوطية «Gothic Fiction». كل ما سيصبح فيما بعد خطابة حتمية لهذه النوع الذي بالكاد يتطرق إليه «هوارد هوكس» في هذا الفيلم: لقد تم رفضه باجتماع وبوعي لصالح علم النفس والواقعية الاجتماعية. على سبيل المثال، كان حصار مخبأ رجل العصابات والقبض عليه من قبل الشرطة بمثابة النهاية الأكثر شجاعة للعديد من الأفلام ذات الأهمية القليلة: وفي فيلم «ملائكة ذات الوجوه القذرة Angels with Dirty Faces» لعام 1938 من إخراج «مايكل كيرتيز Michael Curtiz». فالمطاردة هنا تجري على ناطحة سحاب ضخمة. ففي فيلم «سكارفيس»، يبدأ كل شيء كما لو أن صراعًا لا نهاية له مع العديد من الانقلابات على وشك الحدوث، لكن كشف الحدث الدرامي ينتقل على الفور تقريبًا إلى نفسية بطل الرواية: فموت أخت رجل العصابات يجعله ضعيفًا وغير قادر على القتال. لذا فهو يختار الهرب على الاستسلام، وبعد الاصطدام مع شرطي، يسافر البطل ثلاث ياردات «وحدة قياس» فقط قبل أن يوقفه وابل من الرصاص من مدفع رشاش.
طويل الفيلم، يرفض المؤلفون بشكل منهجي الاعتماد على الأحداث الدرامية المعتادة، ويفضلون بدلًا من ذلك تقليم الحبكة. من أجل تركيز كل اهتمامهم على الشخصيات، فمشاهد العنف لا يتم إدراجها ببساطة في الفجوات المتبقية بين أقسام السرد. خذ على سبيل المثال، مشاهدة تفاصيل أدت إلى ما أصبح يعرف باسم «مذبحة عيد القديس فالنتين St.Valentine’s Day Massacre»؛ الشيء الوحيد المهم هو الحلقة الأخيرة التي يتم فيها تغليف معنى الحدث، وحيث يتم قص الرجال السبعة خارج إطار الكاميرا. ولهذا السبب يبدو الفيلم مقسمًا إلى عدة مشاهدة قصيرة ترتبط مع بعضها بروابط رمزية بحتة، مثل تمزيق صفحات الرزنامة المتراكمة على رشقات نارية من رشاش ما.
إن صلة هذه التقنية مع بعض الروايات الأميركية واضحة، وكذلك التركيز على سيكولوجية الشخصيات التي قد ذكرت من قبل «فوكنر». الذي يستحيل تجنب المقارنة معه على الرغم من أنه لا ينبغي المبالغة في ذلك. إن عيون «جورج رافت George Raft» الزرقاء الجامدة، وسلوكياته، وقوته اللا محدودة والمريضة تجعله موجودًا بشكل مكثف تقريبًا مثل «بوباي Popeye» الذي لا ينسى في رواية «وليام فوكنر William Faulkner» الملاذ الآمن Sanctuary2». أما «بول موني Paul Muni»، فهو ينتمي إلى عالم جمالي لم يعد فيه للتعاطف والكراهية التي تتطلبها «الميلودراما Melodrama» أي معنى. إنه على ما هو عليه الآن، خطير للغاية على نفسه، وبعيد عن متناول حُكْمِنا. ربما هذا ما يجعل «سكارفيس» مختلفًا تمامًا عن «فيلم العصابات» التقليدي، حيث يستدعي الحدث رد فعل الجمهور لصالح الشرطة أو ضدها، والذي يُحيي الفكرة الاجتماعية القديمة «اللص الآسير The Captivating Thief»، الذي تتمثل سمته الأكثر شيوعًا في المكر الذي يمكنه من التغلب على الشرطة 3. إن «مان جي G-Men» في فيلم «سكارفيس» ليسوا سوى عنصر فني ضمن طاقم والساذجة في السلطة. كما هو الحال عند «فوكنر» فإن الدوافع التي تحرك مثل هذه الدمية هي في نفس الوقت منحرفة تمامًا ولا يمكن مقاومتنا على الاطلاق. نادرًا ما يكون المال هو السبب الجذري لهذه الرغبة في السلطة، والتي تكون في أغلب الأحيان مجرد غرور وشوف طفولي مستمر «الآن أصبح بوسع موني أخيرًا أن يغير قميصه كل يوم». إنه هاجس لا يمكن لأي قوة في العالم أن تنتزعه منه. فمثلُ هذا الرجل كمثلِ حشرة يرجى استئصال أطرافها إذا أردنا إزالتها من الفرع الذي تتشبت به.
إذا كان «سكارفيس» هو فيلم العصابات الكلاسيكي، فهناك سببان وجيهان وراء ذلك. أولًا، لأنه رسم الخطوط العريضة للبلاغة الدرامية لهذا النوع من الأفلام، والتي طورتها أفلام أخرى فيما بعد. لكن هذا التقليد المتمثل في طلقات المدافع الرشاشة، والأجساد المثقوبة بالرصاص، وصراخ المكابح هو التقليد الأقل إثارة للاهتمام، وذلك على وجه التحديد لأنه لم يواجه أي مشكلة على الإطلاق في ترسيخ نفسه ويمكن العثور عليه الآن في كل مكان. وكان بوسع «هوكس» نفسه، الذي ربما كان أمهر الحرفيين في هوليوود، أن يستغل هذا التقليد على نحو أكمل لو تتم الإلحاح عليه في ذلك. أظهر فيلم «الدفاع الجوي Air Force» لعام 1943؛ إخراج «هوارد هوكس» مدى بلاغته السينمائية للولايات الأميركية المتحدة عندما يتعلق الأمر بمشاهد «الحركة». لكن «سكارفيس» يتخذ اتجاهًا جماليًا مختلفًا، اتجاهًا يربطه بعرق معين في الخيال الأميركي، لم تتمكن أفلام العصابات اللاحقة من اختراق أعماقه إلا نادرًا، حتى عندما حاولت ذلك. ومن هنا المعنى الثاني الذي يعتبر فيه «سكارفيس» فيلم العصابات الكلاسيكي: إنه عمليًا فريد من نوعه. يتم التعامل مع عنف رجال العصابات وتقلباتهم فقط كوسيلة لتحقيق غاية تهيئة مناخ خاص لتنمية هؤلاء الدمى البشرية ذات الدوافع الغريزية. لقد خلق «فوكنر»، و«إرسكين كالويل Erskine Calwell» مناخًا متشابهًا في مزارعهما الجنوبية، وقد أتيحت لنا الفرصة مؤخرا لرؤية نفس التصميم الجمالي في فيلم «ألفريد هيتشكوك Alfred Hitchcock»، «ظل الشك Shadow of a Doubt» لعام 1943. إذا لم يستسلم المخرج في النهاية لحساسية الجمهور الأخلاقية، فإن هذا الفيلم لم يكن ليستحق فيلم «سكارفيس». تم تطوير أحد الموضوعات النفسية على وجه الخصوص في فيلم «ظل الشك»، كما في «النديب»، حيث سفاح القربى، حتى مع أداة تكثيف «فوكنر» في فيلم «هيتشكوك» لإعطاء ابنة الأخ وعمها نفس الاسم الأول. لقد أصبح التحليل النفسي حقًا أمرًا مألوفًا في هوليوود. على سبيل المثال، يُرينا فيلم «طريق مسدود Blind Alles» لعام 1939؛ إخراج «تشارلز فيدور Charles Vidor»؛ رجل عصابة يستخدم بندقيته الرشاشة كوسيلة مجازية لقتل والده. لكن هذا ليس أكثر من انحطاط رخيص لموضوع نادرًا ما تعاملت معه السينما الأميركية بالجرأة والحذر المتزامنين كالموجودين في فيلم «سكارفيس».
يمكن للمرء أن يرى في معالجتها لموضوع مثل سفاح القربى أحد الحدود التي تفرضها السينما على نفسها، على النقيض من ممارسة الرواية. ما يثير الدهشة ليس أن السينما الأميركية نادرًا ما تدخل مجال الخيال الحديث، بل تدخله وبقوة. وعندما يدرك المرء مدى الرقابة على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، أو حتى ببساطة مدى الرقابة الذاتية. التي يمارسها الجمهور في مواجهة كل ما يخل بأمنه الاجتماعي والأخلاقي، فلابد وأن يتعجب حقًا عندما يتساءل المرء من حين لآخر عند اجتماع السينما الأميركية بمشاعر من النوع والحدة التي نربطها بأدب المنطقة ذاتها.