ترجمة: شيماء بنخدة
إن التحيز الشديد والمحمود لمؤيدي الوثائقي «فاريبيك Farrebique» لعام 1947 من جهة، وسوء نية «هنري جايسن Henri Jason» وعدد قليل من «مناهضي الفاريبيكيين» الذين اتخذوا موقفًا جدليًا في الصحافة، من جهة أخرى يخفي في الواقع مجموعة متنوعة من الآراء الوسيطة. والتي يتم قياسها بشكل أكبر عند التعبير عنها على انفراد. بصرف النظر عن إصدار حكمين أو ثلاثة أحكام غبية حول تفاهة «واقعية فاريبيك». فالجميع يتفق على الجودة الاستثنائية لهذا الفيلم. تختلف آراء الناس فقط في تقديرهم الأهمية النسبية لبعض مكامن الضعف في العمل الذي يفتقد صفة المثالية المطلقة. ويمكن للمرء أن يلومها، على سبيل المثال، على خيانتها جزئيا لوظيفتها التوثيقية لأنها تهمل العلاقات الاقتصادية بين المزرعة والقرية. قد يثير الجانب «الشعري» من الفيلم أيضًا ردود فعل متنوعة. أعتقد أن هذا الجانب هو الأكثر اعتراضًا فيه، على الرغم من أن بعض عناصره، مثل تصوير مشهد فصل الشتاء تعمل بشكل جيد. الأمر نفسه ينطبق على مشهد الدفن، يجب بلا شك ان يتم إدراحه على لائحة مختارات الشاشة العظيمة لمشاهدة الدفن، الذي يجب بلا شك أن يتم إدراجه على لائحة مختارات الشاشة العظيمة لمشاهد الدفن. ومع ذلك، فإن التفسيرات الإخراجية، والتحويل الشعري الذي قام به «جورج روكييه Georges Rouquier» في عدة لحظات من الفيلم، تثير حُكْمي السلبي، وهو الحكم الذي تفلت منه العناصر الأساسية للفيلم. يجب على المرء أن يميز بوضوح في فيلم «فاريبيك» بين ما يتعلق بإحساس الشاعر الشخصي «مهما كان ذوقه موثوقا به إلى حد ما» وبين ما يتعلق بجوهر العمل ذاته، والكشف الأولي و النهائي عن أصالته العميقة. وأسارع إلى إضافة هنا أنني أعتبر «روكييه Rouquier» شاعرًا و أن التمييز المنطقي البحث الذي أقوم به لا يهدف إلى التقليل من كل ما يدين به «فاريبيك» لحساسية صانعه.
أعتقد ببساطة أنه من المهم عدم الخلط بين الصفات التي يمكن الاعتراض عليها وبين التقدم الموضوعي الذي لا جدال فيه و الذي يمكن للسينما أن تستفيد منه في جميع أنواعها، و ليس فقط النوع الرَعَوي «pastoral».
يمكن للمرء أن يقول تقريبًا أن قيمة «فاريبيك» هي أقل جمالية منها أخلاقية. و من أجل الوصول بهذا المشروع إلى نتيجة مرضية، احتاج «روكييه» إلى أكثر من مجرد صفة الشجاعة للقيام به: كان عليه استخدم كل قوة إرادته من أجل البقاء صادقا مع نيته الأولية. «فاريبيك» هي مؤسسة زاهدة تهدف إلى حرمان الواقع من كل ما لا علاقة له به، وخاصة تطفل الفن. فكانت هناك حاجة ملحة إلى أكبر قدر من الخيال والمثابرة مما يظن المرء على العموم وذلك لاكتشاف قواعد اللعبة والالتزام بها بدون تردد. كانت المخاطرة جديرة بالاهتمام، لكن البعض سيقول «وأسفاه، لقد كتبوه بالفعل!» لم يكن على «روكييه» أن يكون قادرًا على تحمل الكثير من المتاعب من أجل مجرد العودة إلى نقطة الصفر. لمدة ساعة ونصف رأيت الأبقار تتغوط، والفلاحون يأكلون، والأمطار تهطل، والطين يلتصق بالقباقيب. هذا ما كتبه «م. جان فايار M.Jean Fayard»، الذي يرى أن الأحداث ذات الأهمية البسيطة لا تستحق في حد ذاتها الظهور في عمل سينمائي كامل بل يعتقد أنه من السهل أن يذهب المتفرج إلى الريف، أو بشكل عام، إنه لا يحتاج إلى الذهاب إلى السينما لرؤية الأشياء كما هي على الواقع. و قبل الرد على هذا النقد، أود أن أشير إلى أن السينما لم تتوقف قط عن التظاهر بأنها مرآة للحياة تبين لنا الأشياء كما هي. تقول فلاحة عجوز في مذكرات «جيل رونار: Jules Renard». في السينما، نعتقد دائما أن ما نراه حقيقي. مذكرات 1887-1910. وباستثناء عدد قليل من الأفلام التي حاول صناعها وبشكل ممنهج التملص من واقعية المادية وإن تعلق الامر بأحداث تدور في عالم خيالي أو حكاية خرافية.
تجد الموضوعية التقنية للتصوير امتدادها الطبيعي في الموضوعية الجمالية للسينما. ولهذا السبب فإن تاريخ تصميم الديكور، بعد هرطقة تيار التعبيرية، أظهر على مدى الثلاثين عامًا الماضية عودة ثابتة إلى الواقعية. لم يطلب «مارسيل كارنيه Marcel Carné» من مصممه ” «ألكسندر تراونر Alexander Traurner» بناء محطة مترو الانفاق «Barbés- Rochechaurt» الخيالية لفيلم «بوابات الليل Gates of The Night» لعام 1946؛ دون أن ينقص شريطًا واحدًا من بوابات المترو. وبالتالي يتمثل دور مصمم الديكور في السينما الحديثة في تخيل الديكور الأكثر مصداقية في إطار السيناريو. يجب أن تساهم هذه المجموعة بالطبع بأكبر قدر ممكن من الدراما، ولكن قبل كل شيء يجب أن تمنح الحبكة أقصى قدر من المصداقية. فغرفة نوم «جان غابان Jean Gabin» في فيلم «Day Break طلع النهار Le jour se lève» لعام 1939 من إخراج «مارسيل كارنيه»، هي مثال للدقة الوثائقية في تصويرها لمسكن شخص عازب من الطبقة العاملة يعيش في إحدى ضواحي باريس.
لذا، دعونا لا نلقي اللوم فقط على فيلم «فاريبيك» على واقعيته، وإلا فمن الأفضل أن نوجه توبيخنا إلى صناعة السينما بأكملها. إذا كان «مناهضو الفاريبيك» يعترضون الآن على أن واقعية السينما لا تحقق بشكل عام مكانة للفن إلا بقدر ما تكون مصطنعة، ومحسوبة، ومبنية، ومختارة ليس لنفسها ولكن كعنصر قائم بذاته من عناصر العمل الفني الذي تنتمي إليه. ثم يسعني أن أقدم ملحوظة أخرى؛ هل خصومي على يقين تام من أن هذه التبعية للتصميم الجمالي «الدرامي أو غيره» التي يحكم العمل الفني لم تغير ببطء شديد إحساسنا بالواقعية في السينما؟ ليس هناك نقص في ما يسمى بالأفلام الواقعية حول بعض الأحداث غير المهمة أو غيرها أو شريحة من الحياة. فلا يوجد هناك نقص في أفلام الفلاحين. فلماذا يطلق على «فاريبيك» لقب البطة القبيحة بينهم؟ في رأيي، هذا راجع إلى العبقرية الفذة لـ«روكييه» وإلى قدرته إذا صح التعبير على الوقوف على حافة الجرف. لقد فهم أن الواقعية قد حلت وببطء شديد محل الحقيقة، وأن هذا الواقع قد ذاب في مياه الواقعية. لذا فقد تعهد بإعادة اكتشاف الواقع وبإعادته إلى ضوء النهار و انتشاله من بركة الفن الغارقة. بعض الناس ينتقدون «فاريبيك» على قبحه.
فالرجال والنساء الموجودون فيه ليسوا على قدر من الجمال المرغوب. والمناظر الطبيعية في مقاطعة «روورك Rouergue 2» بفرنسا خالية من العظمة. المنازل قذرة و بلا نمط وساحة القرية تبدو مألوفة بشكل محبط والتي نكتشفها صباح أحد أيام الأحد قبل القداس وبعده. في فرنسا، يوجد لدينا العديد القرى التي كان من شأن جمالها التاريخي والجغرافي أن توفر رَوْنَقًا جوهريا لتبرير الاهتمام الوثائقي بفيلم «روكييه». يتخذ «هنري جيسون Henri Jason» موقفًا أخلاقيًا ووطنيًا للتنديد بالصورة التي يعطيها «فاريبيك» في الخارج لحياة الفلاحين الفرنسيين: «إنهم يعيشون مثل الحيوانات دون أي نظافة إضافة إلى التواصل فيما بينهم بلغة فرنسية رديئة». «ربما يقصد “جيسون” بذلك اللهجة الفرنسية». ولكن من الواضح أن «روكييه» لم يتمكن من إنهاء مشروعه بنجاح باستخدام مادة كان من الممكن أن يشوه جمالها بطرقة ما التفاعل الكيميائي للكاميرا. المناظر الطبيعية الجميلة والكنيسة الرومانية الصغيرة، وبعض الفولكلور الترفيهي كان من شأنهم أن يسليانا عن الطبيعة وعن القرية نفسها. وكذا تجمع الشباب الذين يقتصر مرحهم ولعبهم على كونهم نصف مخمورين في ليالي الأحد داخل حانة قذرة. خاليا من الرعب من ناحية واللون المحلي من ناحية أخرى، يقع واقع «روكييه» في منطقة محايدة تثير تعجبنا أو شفقتنا إلى الحد الأدنى. هذا الواقع ليس سوى نفسه، وهو نفس النوع من الواقع الذي ليس لدى الفنان ما يقوله عنه، ومع ذلك، قرر «روكييه» أن يركز اهتمامه على هذا الأمر وحده: حيث تقوم كاميرته بعملية تصوير غامضة و متناقضة، وفي نهايتها كل ما يتبقى لنا هو وعي وإدراك هذا الواقع. عند هذه النقطة، يجب أن أتحدث عن الجمهور، الذي تعتقد أنه سيشعر بالملل من الفيلم مثل «إم.جيسون». أعترف أنني بعد مشاهدة عرضين خاصين لفيلم «فاريبيك»، ورغم كل إعجابي بالفيلم إلا أنني خشيت أن لا ينال استحسان الجمهور ويكون مملا لهم. بل إنني أعتقد أن «روكيبيه» نفسه لم يكن متأكدًا تمامًا من أنهم لن يشعروا بالملل. فكان علي أن أشاهد الفيلم بين المشاهدين الذين طلب منهم دفع ثمن مقاعدهم «فهم ليسوا من أصحاب الملايين»، لأدرك بعدها أنه على الرغم من عدم وجود حبكة أو نجم شهير، إلا أن هذا الفيلم أظهر سحرًا ديماغوجيا تقريبًا، وكان الجمهور في حالة تناغم وإنسجام مع متعة التعرف على الأشياء ببساطة. لقد شاهدنا الريف ألف مرة في السينما، لكنه في هذه الحالات تم استخدامه كخلفية للممثلين أو كذريعة لعرض مهارة المصور السينمائي. فنعدما لم يكن الثلج مصنوعًا من حمض «البوريك»، كان بمثابة عنصر تصويري أو درامي حصريا «انظر إلى فيلم «السيمفونية الرعوية The Pastoral Symphony»، للمخرج «جون دولانوي Jean Delannoy»، سنة 1946، وكانت الأغنام ترتدي حول عنقها شرائط خيالية من القصة. على النقيض من ذلك، فيلم «فاريبيك» لا يخضع الواقع مطلقًا للقصة أو الفن؛ والحقيقة أنه موجود لذاته قبل كل شيء. وفي القصيدة الشتاء الرائعة، لا يرفع تحرير «روكيه» الأشياء إلى مستوى الرمزية المجردة. «يجب أن أقول هنا أنه أقل نجاحا في مشهد فصل الربيع». فأسلاك التلغراف المتجمدة، ومشهد الكلب الذي يركض في الثلج، والجليد الموجود في العلامات العميقة في الأرض الناعمة الذي تشقق بسبب قبقاب الرجل، هي مجرد صور حقيقية بلا شك مبتذلة ومتعددة. لكنها ليست عامة على الإطلاق: يحافظ «روكييه» على تفردهم الكامل.
خد على سبيل المثال النار في الموقد. ليس هناك حاجة لهذه الأشياء في السينما، فبعضها تم تصويره بشكل أفضل من هذا. مثلا في فيلم «لقد حدث ذلك في النزل It Happened at The Inn»، و«Goupi-Mains- Rouges»، للمخرج «جاك بيكر. Jacques Becker» لعام 1943. يقوم الإمبراطور بوخز جذوع الأشجار المحترقة تماما مثل ما فعل الجد في فيلم «فاريبيك». فقط نار الجد هي نار حقيقية، تشتعل ألسنة اللهب من تلقاء نفسها وليس بأمر من الرجل ذي المؤثرات الخاصة، والذي يعرفه الجميع لأن جذوع الأشجار لا تزال خضراء فينفخ لتنزف كل عصارتها. يصرح «جون كيو John Q»: «هل يجرؤ أي شخص جلس في طفولته حول مثل هذه النيران أن ينكر لأول مرة على الشاشة أنه يتعرف في هذا المشهد على اللغز الغريب و الواسع للنار و الخشب؟ على أي حال، لا ينبغي للجمهور أن ينخدع، فهو يتعرف على بركة الطين الموجودة في الممر الغارق والتي تلوث حذاء صهره، الذي جاء من المدينة في عطلة زراعية صغيرة؛ يتعرف على عمته، ثرثارة القرية، أو موظفة البريد في وسط أو جنوب غرب فرنسا حيث ولد والده. يتعرف على أرض المعارض بأشجار الزيزفون وعشبها المتناثر المصفر؛ إنه يدرك جميع التجارب التي كان من الممكن أن يمر بها لو كان قد ولد فلاحًا قبل جيل أو جيلين. إنه يتعرف على هذا العالم السخيف والحنين إلى حد ما، والذي يشعر بشكل غامض أنه خانه بطريقة ما، عالم الأرض، والناس والحيوانات، فيتذكر بشكل خافت من طفولته ومن العطلات الماضية.
لا توجد قصة هنا، أوعلى الأقل نجوم أو ممثلون: توجد فقط حقيقة يعترف بها كل شخص في سرية ضميره الصالح أو الطالح. «انظروا»، صاح المشاهدون الأوائل للتصوير السينمائي لـ«ليميير» وهم يشيرون إلى أوراق الأشجار، «انظروا، إنها تتحرك». لقد قطعت السينما شوطًا طويلًا منذ أيامها البطولية عندما كانت الجماهير تكتفي بالعرض الخشن لغصن يرتعش في مهب الريح! ومع ذلك، بعد خمسين عامًا من الواقعية السينمائية والتقدم التقني الهائل، لم تكن هناك حاجة إلى أقل من القليل من العبقرية لإعادة الفرح البسيط والأساسي للجمهور الذي لم تعد السينما الخيالية والدرامية توفره: نشوة الاعتراف.
لهذا السبب، على الرغم من عيوبه، وبعض الجماليات المتناقضة التي عفا عليها الزمن بعض الشيء، وبعض اللحظات المحرجة بعض الشيء في السرد، والحس الشعري غير المتكافئ الذي لا جدال فيه، فإنني أعتبر فيلم «فاربييك» إنجازًا كبيرًا. إنه أحد الأفلام الفرنسية القليلة جدًا التي أدركت إلى جانب فيلم «أمل الرجل مارلو»، لعام 1939 أن السينما في حاجة ماسة إلى ثورة واقعية. لقد اندلعت هذه الثورة للتو في إيطاليا، لقد فعل صانعو الأفلام الايطاليون الكثير بها في أقل من عامين لدرجة أنني أخشى أن أفلامهم قد تشكل بالفعل كلاسيكيات الحركة الواقعية الجديدة.