تغريد العتيبي
يُعدُّ أدب التحقيق صنفًا من أصناف كتابات الجرائم الإبداعية سواء المستوحاة من الحقيقة أو الخيال حيث يكون مشبعًا بالغموض وفكّ الألغاز غالبًا حول جرائم قتل متتبعًا في الغالب شخصية محقق سواء كان محترفًا أو بدائيًّا أو فوضويًّا أو مريبًا أخلاقيًّا أو قد ترك المهنة، وغيره. كل تلك الكتابات في تصوير الجرائم والغموض عوضًا عن المبالغة يحتاج إلى نوع من «المصداقية» الأدبية في السرد لتجذب انتباه القرّاء والجمهور والإقناع في عبقرية أو حظ المحقق في حل تلك القضايا المستعصية، لكن سرد ذلك التحوُّل إلى المعرفة هو المفتاح الرئيس في أهمية أعمال أدب التحقيق. ومن هنا يظهر اهتمام كتاب ومؤلفي أدب التحقيق العريقين مثل: آرثر كونان دويل مؤلف شريلوك هولمز، المحقق الأشهر في الثقافة العامة، وآغاثا كريستي، مؤلفة عدة روايات تحقيق شهيرة، في البحوث والدراسات والاطلاع على ثقافات وعلوم مختلفة لصنع حبكات فريدة ومثيرة للاهتمام من أهمها علم الجريمة.
قد يعود أدب التحقيق إلى القوطية كأسلوب أدبي في التعبير عن الجرائم وتصوير الدموية والألغاز الظلامية المحيرة، ومنها قد استوحِي هذا التداخل الكبير مع أصناف أخرى كعلم الجريمة. لكنه كأدب قد تفرَّد بعدة أعمال تسلسلية في بداية ومنتصف القرن العشرين، حيث يُعدُّ من بعض قراء أدب الرعب «القوطية المعاصرة»، لكنَّه في غالب الأحيان يأخذ طابع القوطية الخيالي الظلامي، ولكن لا يستعير أشباحها أو يستحضر أخرى كأعمال أيقونة القرن التاسع عشر آلان إدغار بو التحقيقة المعتمدة على القوطية ليست فقط كقالب تصوير بل في تشكيل أشباح وووحوش، حيث قدمت وشكلت الصورة القوطية الأمريكية لأعمال عدة، ومخيلة القرن العشرين المعتمدة على الغموض والترويع سواء في الشعر أو القصص القصيرة. حيث يُعد آلان إدغار بو من أوائل كتاب هذا الأسلوب القصصي القصير، فقط خط رموزًا شهيرة في الرعب والقوطية من لينور وآنابل لي إلى الغراب وسقوط بيت وآل أشر وصورًا عدة من عودة الماضي وكبت ودفن الأحياء.
لكن التحول إلى «الواقعية» أو أقرب ما يكون لها في ما تبع أعمال آلان إدغار بو قُدِّم على خضم تطور وازدهار علم الجريمة ومدى وعي القراء والعامة وعدمها بتلك التطورات لتصبح الكتابة عنها «أقرب» للخيال للقارئ البسيط، ولكنها مثيرة للاهتمام للقارئ المطلع مكونة عاملَ جذب لشرائح مختلفة لأسباب عدة. فمثلًا أعمال آرثو كونان دويل قد خطت جرائم قد يمكن اكتشاف فاعلها بالبصمة، لكن بعد وفي بدايات تطور علم البصمات كتب دويل أعمالًا أخرى نرى فيها استعانة شيرلوك هولمز على البصمات وتقدم هذا العلم رغم تطوره، وتغير مسميات عديدٍ من تلك المفاهيم البدائية لكنَّ روايات التحقيق تلك صوَّرَت ما قبل وبعد تطوُّر علم الجريمة وأيضًا الإشكاليات في خضم تطور وتكوين علوم كهذه. لكنها أيضًا تشير إلى سعي دويل وعديد من المؤلفين في أدب التحقيق لمحاولة اللحاق بتطورات علم الجريمة أو استباقها بتصوير ما قد يمكن يحدث خلال فجوات معينة أو اكتشافات مستقبلية. ومن هنا تظهر أهمية أدب التحقيق بشكل عام في دراسة مدى مخاوف وتخيلات العامة من مؤلفين وقراء ونقاد ومستهلكين عمّا قد يمكن لعلم الجريمة أن يصل إليه.
لكن تلك التصويرات أيضًا خطت خطًى انتقدت لاحقًا باعتمادها على العديد أو تغذيتها لخيال وسرديات معينة مثلًا معتمدة على دراسات جدلية مثل نظريات سيزار لومبروزو في البدائية والرجعية والجريمة، معتمِدًا على «شكل» الأشخاص مثل شكل الأنف وعظام الوجه والقامة ولغة الجسد وغيره. لعل تلك التصويرات غالبًا أخذت من بدايات روايات القوطية الكلاسيكية كالأسياد ذوي الشخصية البايرونية الغامضة أو دراكولا وبدايات تصوير مصاصي الدماء بشكل أنف معين وغيرها. ومن هنا يظهر أيضًا مدى الانتقادات المعاصرة لبعض أعمال الرعب والقوطية الكلاسيكية في تصوير الشر والشخصيات الوحشية بنمطية معينة جعلت النقد المعاصر يزخم بدراسات لقراءة وفك تلك التصويرات في سياقات تلك الأعمال الزمنية بما يتخللها من عناصر ومؤثرات ثقافية ومجتمعية وسياسية. قد أدَّت تلك البحوث والقراءات النقدية إلى ما يعرف في نظريات القوطية بالنظرية الوحشية وتصوير الشر وماهيته.
لذلك تلك التداخلات بين الأصناف الأدبية والبحوث والتطورات العلمية كما في علم الجريمة لم تكن دائمًا في صالح أدب التحقيق حيث اقتبست وغذَّت أيضًا نمطيات عدة معتمدة على دراسات تم نفيها أو تصنيفها على أنها بدائية بحتة في العقود التي تلتها. قد تكرر هذا أيضًا في ثمانينيات القرن الماضي من اعتماد الأدب البوليسي الأمريكي على نظريات تقول إنَّ الدماغ الإجرامي مختلف بيولوجيًّا عن الدماغ الطبيعي، ما أدى إلى تشريح ودراسة أدمغة قتلة متسلسلين بعد الإعدام، لتنفي تلك النظريات البسيطة لاحقًا، وإنما أصبحت أكثر تعقيدًا في دراسات الصدمات النفسية والأعصاب والانفعالات وغيره، عوضًا عن الشكل البيولوجي البحت كأنف ووجه ودماغ. ومن هنا ظهرت التصويرات المتقدمة للسيكولوجية والسوسيوباثية وغيره، وتحول أدب التحقيق إلى نوع من التركيز على تصوير القتلة والأشرار عوضًا عن المحققين فقد أصبح بالفعل «أدب الجريمة». كان من أشهر تلك التحوﻻت مثلًا شهرة أعمال توماس هاريس في الثقافة العامة والأدب الأمريكي بشكل عام قبل أدب الجريمة بشكل خاص. مثلًا من أعماله حظي المحقق المريب والأقرب إلى الجريمة ويل غراهام وخليفته كلاريس ستارلينغ المكلومة بالصدمات النفسية منذ الطفولة بأقل شهرة، لكن من منا لا يعرف هانيبال ليكتر؟!