د. وليد سيف
فضلًا على المهارة التقنية الفائقة التي جعلت الفنان فؤاد الظاهري رائدًا وغزير الإنتاج في مجال موسيقى الفيلم في مصر بصورة غير مسبوقة، بتمكنه الحرفي الشديد من وضع المساحات الموسيقية الملائمة لطول اللقطات المصاحبة على الشاشة وهي مهارة لم يمتلكها الكثيرون من كبار الموسيقيين، خاصة في زمن شريط السلولويد وقبل دخول عصر الكومبيوتر الذي سهّل مثل هذه الأمور، فقد امتلك الظاهري أيضًا موهبة ومقدرة فائقة في التعبير الدرامي بالموسيقى الملائمة لأحداث الأفلام بمختلف أنواعها ومواقفها، وبحيث تُحقق التأثير المطلوب وتتواءم مع عناصر العمل جميعها.
وهذا ما جعل الظاهري سيدًا لهذا الفن لفترة تقترب من نصف القرن وعبر مئات الأعمال، وما جعله الاختيار الأول للعديد من المخرجين من مختلف الأجيال، ومنهم صلاح أبوسيف ويوسف شاهين وفطين عبد الوهاب وحسن الإمام وسعيد مرزوق وغيرهم وغيرهم.
في هذا الخصوص سوف أكتفي بالتوقُّف عند بعض الملاحظات في أربعة نماذج من أعماله السينمائية، من بين أفلام عديدة وضع موسيقاها، وهذا على سبيل المثال طبعًا وليس الحصر، ولتمثل إبداعاته في مختلف الأنواع من الأفلام بتطوراتها الدرامية وطبيعة شخصياتها وتحوّلاتها تبعًا لأحداث الأفلام ومواقفها: في مجال الفيلم الكوميدي الذي استهل به الظاهري مسيرته السينمائية بداية من فيلم الحموات الفاتنات وأعقبه بأعمال عديدة منها إسماعيل يس يقابل ريا وسكينة، ومن بين روائع هذا النوع فيلم كرامة زوجتي للمخرج فطين عبدالوهاب، حيث كانت الجملة اللحنية هي الرابط الأساسي والانتقالة الساخرة من مشهد إلى مشهد ومن مرحلة درامية إلى أخرى.
وهي من لحن أغنية على حزب الريح التي غناها عبدالحليم حافظ، بكل ما تمثله الأغنية من حالة وجدانية مؤثرة في الجمهور، وما توحي به عن شخصية البطل الذي يتخبط في حياته وفي علاقات نسائية متعددة، مستسلمًا لرياح العاطفة التي تُلقي به في أي اتجاه، وقد استخدم الظاهري تنويعات على اللحن تتناسب مع مختلف المواقف، فهي تارة تُعبّر عن الحب، وأخرى عن الخيانة أو السخرية، لكنّها عبرت بوجه عام عن روح الفيلم المرحة المنطلقة بانسيابية الجملة وتنويعاتها الملائمة لمختلف المواقف المضحكة منها والمحزنة أيضًا.
في مجال الفيلم الوطني الذي قدم فيه موسيقى خالدة في أعمال رائدة منها بورسعيد وفي بيتنا رجل، سوف نتوقف أمام فيلم رد قلبي للمخرج عز الدين ذو الفقار ونستعيد موسيقاه بتأمل وإعجاب شديدين، فمنذ العناوين ومع الموسيقى القوية المؤثرة بما تتضمنه من مارشات عسكرية وآهات بشرية يتم التميهد لأجواء الفيلم، وللحدث الجلل الذي سيقع خلاله بقيام ثورة 23 يوليو، وبالمتغيرات المجتمعية الكبيرة التي سوف تنشأ عنه، والتي سوف تنعكس على أبطال الفيلم ومستقبلهم ومصائرهم.
كما تحمل موسيقى رد قلبي في طياتها الملمح العاطفي الذي يشكل الخط الرئيس للحبكة، بما تتضمنه من قصة الحب الشهيرة بين علي ابن الجنايني وإنجي بنت الباشا. وتتواصل الموسيقى طوال الأحداث وفي توقيتات محسوبة، معبرة عن تقلبات الأحداث والشخصيات ببلاغة. ومن ينسى مشهد استعادة الريس عبد العال لصوته بعد أن أصابه الصمم لسنوات، وسط هتافات الجماهير الفرحة بالثورة التي تتخللها من حين لآخر موسيقى الظاهري، وكأنها حاسة النطق وهي تعود إليه تدريجيًّا حتى تكتمل تمامًا مع اكتمال الجملة الموسيقية، فتنطلق الموسيقى لتكثّف المعنى الرمزي للمشهد وتحقق التأثير الدرامي المطلوب.
ومن بين منجزاته العديدة في موسيقى الفيلم الاجتماعى أفلام لا تُمحى من الذاكرة منها شباب امرأة والنمرود والفتوة، فربما لا يعبر فيلم سينمائي عن الواقع الاجتماعي الريفي من خلال موسيقاه بقدر ما نجد في فيلم الزوجة الثانية حيث عبرت موسيقى «الظاهري» عن استيعابه واستلهامه للأجواء الشعبية الريفية في الموسيقى التي قدمها لهذا الفيلم. من أول لحظة سوف تشعر بضوء الشمس وهو ينتشر فوق الحقول، وتكاد تنصت لصوت الديكة في الفجر.
لا ينسى الظاهري أن يغلف موسيقاه بهذه الروح المأساوية التي تتصاعد في أحداث الفيلم، والتي تمتزج مع الروح الساخرة من عبثية الحياة وتقلباتها، في أجواء شبه ملحمية، كأنها حكاية تتكرر في كل الأزمنة، عن الطغاة وضعفهم أمام المادة وتجاهلهم لحقيقة الحياة الزائلة، يمكنك أن تنصت لكل هذه المعاني المتضاربة والمتعارضة في بناء نادر في موسيقى الظاهري، بتنويعاتها في الفيلم وارتباطها بالمكان والشخصيات والأجواء.
في مجال الفيلم العاطفي يستحيل نسيان موسيقاه الملهمة في الوسادة الخالية التي عبرت بامتياز عن كل مراحل العلاقة العاطفية والتحولات في شخصية البطل، وربما لا يمكنك أن تتذكر فيلم أميرة حبي أنا إلا وتصدح موسيقاه في رأسك، تلك الموسيقى التي تنطلق مع بداية الفيلم من صباح جميل في حياة أميرة، معبرة عن الحلم الوردي الذي كانت تعيشه وهي نائمة.
مع أحداث أميرة حبي أنا تتواصل الموسيقى مع الأغاني، لننتقل من الفرحة الغامرة إلى القلق والتوتر ثم الحزن والغضب، حتى نصل إلى نهاية الفيلم التي تشهد تحوّلًا كبيرًا غير متوقع، وكلها تحولات تسايرها الموسيقى، بل تكاد تجزم بأنها هي التي تساير الموسيقى من فرط جمالها ودراميتها وقوة تأثيرها.
لا شك أن الظاهري رائد موسيقي كبير وصاحب تأثير كبير على فن الفيلم في مصر، حيث غلبت في المراحل السابقة لظهوره على موسيقى الأفلام اختيارات من منتخبات الموسيقى العالمية، وهي مسألة تفقد الفيلم جانبًا أساسيًّا من إبداعه ومصريته، واستطاع الظاهري بدراسته للموسيقى العالمية واستيعابه لروح الموسيقى والحياة المصرية أن يحقق نقلة كبيرة في هذا المجال ساهمت في تحقيق السينما المصرية لخصوصيتها وواقعيتها.
لا تعبر هذه الكلمات الموجزة سوى عن ملامح قليلة من إبداعات الظاهري في مجال موسيقى الفيلم، التي لم نتوقف فيها أمام روائع سينمائية أسهمت فيها موسيقاه بدور كبير، ومنها: شفيقة ومتولي، وباب الحديد، وإسكندرية ليه، وصراع في الوادي، وصراع في المينا، ورصيف نمرة 5، وفجر الإسلام، ضمن قائمة من الروائع التي قدّمها، والتي يصعب حصرها.
وهو بالتأكيد يستحق دراسة جادة ومتخصصة لا يقدر عليها سوى باحث أكاديمي متمكن وممارس للعمل الموسيقى باحتراف وتميز.