عصام زكريا
أربعون عامًا مرَّت على إنتاج فيلم Hanna K. الذي قام بصنعه المخرج اليوناني الكبير كوستا جافراس، الحاصل على الأوسكار وعشرات الجوائز الأخرى، وصاحب أفلام Z وMissing وUnder Siege. ولكن على عكس هذه الأفلام التي لاقت حظًّا وافرًا من النجاح والتقدير، تعرض «هانا ك» للانتقاد والاستبعاد والحصار من قبل اللوبي الصهيوني، والتوجه الأمريكي بشكل عام، لاستبعاد الصوت الفلسطيني.
يدور «هانا ك» حول محامية إسرائيلية تتولى الدفاع عن شاب فلسطيني يتسلل عبر الحدود للبحث عن بيت عائلته الذي استولى عليه الإسرائيليون، ولكنه يُعتقل بتهمة الإرهاب ودخول البلاد بشكل غير شرعي.
الفيلم الذي جرى تصويره 1982 وعُرِض في العام التالي مُستلهَم من قصة حقيقية للمحامية فيليسيا لانجر، الإسرائيلية من أصل بولندي، التي تبنّت الدفاع عن عدد من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال سبعينيات القرن الماضي، وتعرضت بسبب ذلك للمضايقات ومُنِعت من ممارسة المهنة، وهاجرت إلى ألمانيا في 1990. وقد قام المخرج العراقي قيس الزبيدي بصنع فيلم وثائقي عنها بعنوان «صوت الزمن الصامت»، 1991.
يبدأ فيلم «هانا ك» بلقطة افتتاحية واحدة تستمر لمدة أربع دقائق. في قرية فلسطينية هادئة تجلس أم أمام مدخل بيتها تهدهد وتداعب طفلها، على موسيقى شرقية ناعمة وشجية، قبل أن يخرج من البيت مجموعة من الجنود الإسرائيليين، يُعكِّرون صفاء وثبات المشهد، وتتحرك معهم الكاميرا، لنرى عددًا من الأهالي يصطفون بجوار المنزل، كان قد تم إجلاؤهم، وينبح كلب بوليسي يقتاده أحد الجنود نحو يسار إطار الصورة، حيث تتوقف شاحنة وضع فيها بعض الشباب الفلسطينيين المقيدين. تتحرك الكاميرا أكثر ليتسع الإطار فنرى عددًا آخر من البيوت، يصطف أمام كل منها عددٌ من الأهالي، يقفون صامتين يراقبون ما يفعله الجنود. تتغير اللقطة أخيرًا مع نباح الكلب وعدْوه، والجندي الذي يمسك به في أثره، نحو بئر ماء. يصل عدد آخر من الجنود ويكتشفون اختباء شاب أسفل البئر. يأمرونه بالصعود. عندما يتم سحبه أخيرًا نلاحظ أنه شاب مديني «من المدينة» يرتدي قميصًا أبيضَ ورابطة عُنق، حاملًا سُترته على ذراعه ويطلق شعره على طريقة السبعينيات. إنه خائف ولا يفهم ما يدور حوله. يسألونه عن الأسلحة وماذا كان يريد أن يفعل، لا يجيب. يسألونه عن اسمه فيجيب هامسًا «سليم بكري» «يؤدي دوره محمد بكري في أول أدواره السينمائية». يقوم الجنود بوضع ديناميت داخل المنزل الذي رأيناه في أول لقطة، ويفجرونه. المشهد يشبه إلى حد كبير تفجير المنازل بواسطة القصف الإسرائيلي في حرب غزة الأخيرة. الفعل واحد، ولكن بتكنولوجيا وأسلحة أكثر تطورًا.
تتحرك السيارات ونرى مشاهد عامة علوية لمدينة القدس، وصوت الصلاة يرتفع، ومثل المشهد الأول تبدو المدينة سابحة في جمال وهدوء مثل بطاقة سياحية، لا يعكر صفوها سوى جنود الاحتلال الدخلاء.
هانا «أو حنة» كاوفمان «جيل كلايبورج» هي محامية إسرائيلية شابة، من أصل أميركي، نجت أسرتها من الهولوكوست، تزوجت من رجل فرنسي ومنفصلة عنه، وهي على علاقة بالمدعي العام يوشع هيرتسوج «جابريل بيرن» وحُبلى منه نتيجة خطأ، وهي تريد الاحتفاظ بالطفل، بالرغم من أنها لا تحب يوشع. تعين كاوفمان من قبل المحكمة للدفاع عن سليم بكري، المتهم بالإرهاب، ولكنها تثبت براءته من التهمة، حيث إنه تسلل فقط لدخول إسرائيل بشكل غير شرعي، ومن ثم، وفقًا للقانون الإسرائيلي، يُعاقَب بالنفي فقط. وبالفعل يتم «نفي» سليم. وبعد فترة تتلقى المحامية دعوة للدفاع عن أحد المتهمين المسجونين، فتذهب إلى السجن لتجد أنه سليم، الذي تسلل ثانية، والذي يطلب منها رفع دعوى قضائية ضد الحكومة الإسرائيلية للمطالبة باستعادة منزل عائلته الذي استولى عليه الإسرائيليون.
تقبل هانا الدفاع عنه أولًا لأنه يعرض عليها مبلغًا كبيرًا، هو كل ما يملكه، ولكنها بمرور الوقت، عندما تبحث القضية، وتشارك في المحاكمة، ترى، بعين جديدة، الجرائم المنظمة التي ترتكبها هذه الدولة التي أتت للإقامة فيها، حالمة، مثل كثير من يهود العالم، بأنها «الأرض الموعودة».
تذهب هانا إلى موقع البيت، الذي استولى عليه إسرائيليون وحوّلوا جزءًا منه إلى متحف، وتتأكد من الأوصاف الموجودة في الأوراق التي أعطاها لها سليم أن هذا هو البيت، وهو بيت شاسع يطل على حديقة، ويحمل خصائص البيوت الفلسطينية. وتُقرر أن تتولى القضية.
لقد حاول سليم أن يعود إلى موطنه بشكل شرعي لكنه رفض وعومل كمجنون وأعيد إلى مخيم اللاجئين في بيروت. «لقد وُلد هنا» تقول محاميته، ولكن المدعي، والد طفلها المنتظر، يقول: «إنه ليس مواطنًا في هذا البلد. ولا في أي بلد. إنه لا يعرف حتى من هو». فتجيبه ساخرة وهي تنظر لسليم الجالس في مواجهة المحكمة: «ربما إنه لا يوجد بالمرة».
تُعرَض عليها المساومات، وتتلقى التهديدات، ويتوصل أصحاب الدهاء الإسرائيلي إلى عرض اقتراح جيد بالنسبة لها. يمكن أن يعيد حقوق سليم بكري إليه، بشرط أن يحصل على جنسية أخرى، جنوب إفريقيا، مثلًا (التي كانت بنظامها العنصري، حليفًا قويًّا لإسرائيل، آنذاك). عندما تتردد يصرخ فيها بروفيسور كبير السن: «ما الذي تريدينه؟ أن تعطي الجنسية لأي شخص يطلبها؟ أن نعيش كأقلية وسط بحر من العرب، أن نعود للجيتو ثانية؟». يستطرد أستاذها: «لقد تعرضنا للاضطهاد والاستبعاد والنفي لقرون. أنتِ نفسكِ عانتْ أسرتُكِ من الهولوكوست. والآن بعد أن أصبح لدينا بلدٌ وهُوية، يجب أن ندافع عنها». تسأله هانا: «هل يعني ذلك أن نفعل الشيء نفسه الذي عانيناه يا أستاذي؟» فيجيبها: «نعم، إنه أمر ضروري. نعم»!
يقنعونها بتنفيذ المقترح، ويُسجن سليم لمدة ثمانية أشهر، لكنه يُضرِب عن الطعام في الشهر السادس ويتعرض لخطر الموت. تذهب لزيارته وتتقدم بطلب للعفو عنه. يتم الافراج عنه وتصطحبه إلى منزلها. عندما يسألها تصف له ما حدث معها بأنه كان «ضغطًا، وابتزازًا، واغتصابًا عاطفيًّا»!
يستاء يوشع من وجوده، ويزرع داخلها الشك في كون سليم إرهابيًّا. تبدأ في مراقبته، خلال جولاته الغريبة في المدينة، وفي هذه المشاهد يبدع جافراس في تصوير الأحياء العربية المزدحمة، الحية، النابضة بالروائح والأصوات. وتكتشف هانا أن سليم يزور أماكن عائلته المختلفة، ومنها بيوتٌ هُدمت وطُرِد سكّانُها وأصبحت أطلالًا!
لا يُنفَّذ الاتفاق الذي أبرمته هانا مع السلطات، ويواصل يوشع مؤامراتِه لإبعادها عن سليم. تحدث عملية إرهابية فيتهمه بارتكابها، ويهرب سليم قبل أن تصل قوات الأمن.
تعرَّض الفيلم لحملة شرسة من اللوبي الصهيوني عندما عُرِض في الولايات المتحدة من توزيع شركة «يونيفرسال»، ولم يستمر عرضه سوى أسابيع قليلة قبل أن تقوم «يونيفرسال» بسحبه من دور العرض. وأمام ممارسات شركة التوزيع التي انحنت للوبي الصهيوني، قرر جافراس أن ينشر إعلانًا عن الفيلم على نفقته في صحيفة «نيو يورك تايمز»، دفع فيه 50 ألف دولار، ولكن «يونيفرسال» منعته من القيام بالدعاية للفيلم بشكل شخصي!
وفيما قوبل الفيلم بمراجعات نقدية سلبية بشكل عام، وصفه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في مجلة Village Voice بتاريخ 11 أكتوبر 1983 بأنه «سواء كإنجاز سياسي أو فني، فإن «هانا ك» يحمل بيانًا عظيمًا له دلالة مهمة، وأعتقد أنها، باقية».
اليوم بعد مرور أربعين عامًا على الفيلم، يبدو مهمًّا وذا دلالة باقية، أكثر من أي وقت مضى.