رامي عبدالرازق
في عام 1968 أصدر الكاتب المصري يوسف السباعي «1917-1978» روايته الاجتماعية الشهيرة «نحن لا نزرع الشوك»، التي اقتُبست للسينما بعد عامين فقط «1970»، في فيلم من إخراج المخرج الشاب آنذاك حسين كمال «1934-2003»، وكتب السيناريست الشاب أيضًا في ذلك الوقت أحمد صالح، كأول تجربة سينمائية في مشواره الذي امتد لأكثر من أربعين سنة.
يمكن اعتبار هذه الرواية واحدة من نماذج التحديات التي يواجهها السيناريست في تعرضه لاقتباس رواية ملحمية ضخمة، حيث تقع الرواية في 800 صفحة تقريبًا نُشِرت في جزأين، والملحمية المقصودة هنا ليست فقط على مستوى طبيعة الأحداث، ولا القوس الزمني الممتد عبر نصف قرن من حياة الشخصية الرئيسة في العمل «سيدة»، ولكنها الملحمية الخاصة بتفتيت المشاعر، والتوقف أمام اللحظات القدرية أو الانفعالية الخاصة بالشخصية، والتأمل فيما يعنيه هذا بالنسبة لمسارها النفسي الخاص، أو مسارها الإنساني العام.
كل هذا في مقابل المبدأ الأشهر والأهم في الكتابة للسينما، وهو التكثيف الزمني والمعادلات البصرية للوقائع الدرامية والمشاعر الباطنية والأفكار المتصارعة للشخصيات داخل الفيلم.
الطفل والموت
من مبادئ الاقتباس المعروفة أن على السيناريست التعرُّف على عالم الكاتب الذي هو بصدد اقتباس روايته، سواء كان لدى هذا الكاتب مشروع يتوالد ويتشكل عبر كل رواية بشكل تراكمي، أو ليس لديه مشروع واضح لكن لديه ملامح عالم خاص –ولا يوجد كاتب أصيل دون ملامح خاصة لأسلوبه وعالمه.
في رواية الشوك يمكن أن نتعرف بسهولة على جانب من مشروع السباعي الضخم الذي امتد منذ منتصف الأربعينيات حتى منتصف السبعينيات، وأنتج ما يقارب الخمسين رواية ومجموعة قصصية. وبالنظر إلى الفيلم يُمكن الجزم بأن صالح -رغم حداثة تجربته في ذلك الوقت- وضع يده على أعمدة أساسية داخل السرادق الروائي الضخم، الذي شيده صاحب «نائب عزرائيل»، و«أرض النفاق»، و«السقا مات»، و«نادية»، و«العمر لحظة».
المقصود بالأعمدة هنا هو عُنصرا الطفولة والموت، وهما عنصران شديدا الأهمية والفاعليّة في التعرُّف على مشروع السباعي وعالَمه الخاص.
تبدأ الرواية بإهداء لشخصية تُدعى فاطمة، يعترف الكاتب أنه في أثناء دفنها أوحت له بفكرة العمل، حين طلبت أن تدفن في مقابر أسرته –حادثة موت إذن هي التي أطلقت الشرارة- ثم تشرع الفصول الأولى في تأسيس ملامح امرأة توشك أن تفارق الحياة، ومن هناك من أقصى الحافة تبدأ في استعادة فصول حياتها التي هي قصاصات من أقمشة المأساة الإنسانية، وتاج ضخم من الشوك المزروع ليس فقط تحت أقدامها، بل فوق رأسها الصغير.
تبدو الفصول الأولى من الرواية أقرب لروح رواية «السقا مات» التي أنجزها السباعي قبل 18 عامًا من الشوك، حيث العالم الكبير بأسئلته الثقيلة من عيني طفل صغير، أو لنقل طفلة صغيرة يتيمة الأم تدعى سيّدة، وكأنها المقابل الأنثوي للطفل سيد بطل السقا مات.
سيدة هي ابنة حي السيدة زينب، وهو الحي الذي نشأ فيه السباعي نفسه ومسقط رأسه الأثير في كثيرٍ من قصصه. وكعادته يمزج السباعي بين البشر وبين جغرافيا المكان، فهو ابن الجيل الذي يأتي المكان كشخصية أساسية من شخصيات العمل، حيث يستدعي السباعي المكان من عيني سيدة مازجًا بين ذاكرته الشخصية وذكريات سيدة عن ملاعب الطفولة والمولد والحضرة «حلقة الذكر».
وكما يكتمل يُتم سيد في نهاية السقا مات، تبدأ حياة سيدة باكتمال اليُتم حين تفقد أباها. الموت إذن حاضر بقوة في حياة الطفلين، كما هو حاضر في كثيرٍ من أعمال السباعي، والفارق فقط أن الموت هو ذروة في حياة سيد بعد فقده أباه، بينما هو نقطة البداية في طريق الأشواك الخاص بسيدة عقب رحيل الأب أيضًا.
من هنا يبدأ أحمد صالح اقتباسه للرواية، يحذف الفصول الأولى التأملية لشخصية سيدة وهي على أعتاب الموت، ويبدأ في سرد خطي غير استعادي، فالرواية هي استعادة سيدة لمحطات حياتها، بينما الفيلم هو تتبع لتراكمات الأشواك تحت أقدامها عبر فصول حياتها الميلودرامية.
يبدأ صالح الفيلم بسيدة الطفلة الصغيرة، وهي تحت نير زوجة أبيها المنحرفة دلال، في مشاهد ما قبل العناوين، ثم يختم المشاهد بموت الأب، ويستغل نزول العناوين «التتر» في تكثيف الزمن بعرض مشاهد من معاناة سيدة عقب وفاة والدها وانتقالها للعيش مع صديقه برعي، وزوجته أم عباس، ثم ظهور عباس في حياتها، وهو المعادل البشري لأفكار الأنانية والشر والحقد والشهوة في أسوأ تجلياتها الإنسانية.
الزمن والبناء.
هناك روايات يحتاج اقتباسها دراميًّا أو بصريًّا إلى زمن أطول من الزمن المتاح للشريط السنيمائي، ويمكن اعتبار «نحن لا نزرع الشوك» واحدة من هذه الروايات، فالرواية قائمة في فصولها على تفتيت الأحداث شعوريًّا ونفسيًّا عبر المواقف والتفاصيل التي تتعرض لها شخصية سيدة، وهذا التفتيت ليس من باب الثرثرة أو الإفراط، ولكنه معادلة تكرارية الغرض منها التأمُّل في حال عينة من البشر لم تزرع الشوك ولكنها حصدت آلامه، على حد قول الراوي العليم في النص.
ولمّا كانت هندسة البناء في الراوية قائمة على إبطاء الزمن لصالح فرد الحكاية وتحليل ما ورائها من مشاعر وانفعالات، ولمّا كان السيناريو قرر التعرض لكامل النص من بدايته لنهايته، لذا وجب على السيناريست ممارسة الحذف بصورة عنيفة جدًّا وشديدة التكثيف داخل زمن الفيلم، وبدلًا من فصول مرحلة الطفولة المتعددة على سبيل المثال، ومنها علاقة سيدة بشارع الماوردي، أو علاقتها بزوجة أبيها، وطقوس المولد، وشهوتها تجاه الأكل، وتعرُّفها على جسدها في المراحل المبكرة من نموها، وأسئلة الحب والجنس والمال والموت، كل هذا اختُصِر في مشاهد قليلة اكتفت بعرض الحدثين الأهم من وجهة نظر السيناريست وهما موت أبو سيدة وانتقالها للعيش مع أم عباس وتعرفها على عباس، الذي سوف تتحول علاقتها به لعلاقة وجودية ما بين الرغبة في التحرر من الفقر وسطوة الشر والخضوع القسري للحرام التي تمثلها سيدة، والأنانية والشهوة المفرطة وانعدام الضمير التي يمثلها عباس.
وبأسلوب الحذف والتكثيف نفسه، اختُصِرت محطات حياة سيدة التي تستغرق عدة فصول مثل محطات مشاعرها المتنامية تجاه حمدي الوجه الآخر لعباس والمناقض له في الشكل والمضمون والتكوين الإنساني، وهو الذي تنتقل سيدة لبيتهم لتعمل خادمة، ثم زواجها بعلّام بائع الثلج، ثم سرقة ذهبها وطلاقها وطردها وتحولها للعمل بالدعارة الشعبية –وقت أن كانت الدعارة مرخصة في مصر قبل الحرب العالمية الثانية- ثم انتقالها لمرحلة أرقى، كعشيقة في شقة خاصة لرجل من أثرياء الحرب. تستغرق كل محطة من هذه المحطات عدة فصول من الرواية، ما بين الحدث الدرامي وما ورائه من تفاصيل وما يحتويه من أطراف وشخصيات.
أما في الفيلم فجرى الاكتفاء بالحدث الدرامي فقط، مكثَّفًا ومضغوطًا، بل جرى دمج أحداث في بعضها من أجل خلق إيقاع متسارع ومتصاعد. فمثلًا بدلًا من فصول بيت الدعارة الشعبية الخاصة بتوحيدة ولقاء عباس هناك وتورطه في تزوير الكوبونات الخاصة ببيت الدعارة الرسمي، ثم اشتباك سيدة مع توحيدة صاحبة البيت بسبب ذلك، دُمِج واختُصِر كل هذا في الفيلم برد فعل سيدة الغاضب الرافض لمضاجعة عباس حتى ولو بضعف ثمن الزبائن العادية، وخروجها من البيت وذهابها إلى بيت دلال أرملة أبيها التي تعدها فيما بعد لتكون عشيقة راقية، وليست مجرد عاهرة في بيت شعبي.
يجب أيضًا الإشارة إلى أن زمن الفيلم على مستوى مرور السنوات وأعمار الشخصيات أقل من زمن الرواية، ويكفي أن نشير إلى أن جابر ابن سيدة وعباس من زيجتهما المسمومة توفي وهو ابن السابعة في الرواية، عندما استطاع أبوه أن يأخذه بحكم محكمة بعد أن أثبت ماضي الأم المشين، وجاءت وفاته في حادث سيارة بعد أن ضربه عباس ففر وحاول العودة إلى أمه، بينما في الفيلم مات جابر وهو لا يزال طفلًا رضيعًا بسبب احتجاز عباس لسيدة في بيت الطاعة بأمر المحكمة، حيث دُمِجت قضيتا الطلاق والطاعة وحضانة الطفل في وحدةٍ واحدةٍ بالفيلم، ومن ثم مات جابر رضيعًا إثر عدم قدرة أمه على الخروج من البيت والذهاب به للطبيب من أجل علاجه، وهو ما ترتب عليه أيضًا حالة التوبة التي ارتدى عباس عباءتها بعد رحيل صغيره، وانخراط سيدة في العمل ممرضةً لطبيب أطفال، ثم تقاطع حياتها مرة أخرى مع أسرة حمدي الجديدة المكونة من كوثر قريبته وابنه حمادة الصغير.
المحتوى العاطفي
ضمن عناصر الهدم وإعادة البناء التي يمارسها أي سيناريست في أثناء عملية اقتباس أي رواية، قام أحمد صالح بهدم علاقة الحب من طرف واحد التي شكلت وجدان سيدة تجاه حمدي، منذ أن التقته وهو لا يزال طالبًا حتى طلبها أن تدفن في مقابر أسرته في الفصل الأخير، مرورًا بتفاصيل خدمتها له في بيت العائلة ثم انتقالها معهم لبيت حي روض الفرج بعد وفاة الأب، ثم لقائهما في بيت الدعارة عندما اصطحبه أصدقاؤه، ثم عودتها لخدمة أسرته الجديدة بعد أن تنقذ ابنه حمادة من التيفويد. هذه العلاقة التي تُشكّل محتوًى عاطفيًّا رائعًا وشديد التأثير بعيدًا عن ميلودرامية الكثير من أحداث الرواية وفواجعها الشائكة، لأنها تمثل في جوهرها أصلًا من أصول الحياة الإنسانية، حيث لا ينال المرء ما يريده بشدة مهما حاول أو مزق روحه من أجل ذلك.
أما في الفيلم فقد أعاد السيناريو بناء العلاقة على اعتبار أنها حبٌّ متبادَل بين حمدي وسيدة ولكنه حبٌّ خفيّ، يخجل من الفوارق الطبقية التي تحول دون اقتران الخادمة سيدة – مع ملاحظة مفارقة الاسم مع الصفة والمهنة- والسيد صاحب الأسرة راقية الأصول والتعليم العالي والمهنة الوجيهة.
ما فعله السيناريو هو تحوير في المحتوى العاطفي لتصبح قصة حب سيدة وحمدي تنويعة على روميو وجوليت، وعلاقة الحب المستحيلة، التي لا سبيل لتحققها إلا في عالم أسطوري يشبه العالم الذي تُصوّره اللوحة التي تشتريها سيدة من أتيليه الملابس الذي يُصمم لها ملابسها وقت أن كانت عشيقة لثري الحرب. وتموت في النهاية بينما اللوحة معلقة فوق رأسها، في اللحظة التي يضع فيها حمدي رأسه على صدرها الذي امتلأ بأشواك الحياة، معترفًا بحبه الذي طالما أخفاه –طوال الفيلم- رغم عيونه التي كانت تفضحه كلما حامت سيدة حوله أو مارست ابتسامتها الجميلة في وجهه.
هذا التغيير بالطبع هو محاولة لضبط البوصلة على مزاج الجمهور الذي يحب هذا النوع من علاقات الحب المستحيلة، خاصة إذا كانت على أساس طبقي أو مادي، حيث يتعاطف وبشدة مع الأطراف المحرومة من الوصال، ويتطهّر جزئيًّا من آفات الطبقية التي تلوث ثوبه الحضاري المبقع بأمراض العصر الحديث.