د. وليد سيف
يكشف الكاتب الصحفي والناقد الفني أشرف غريب في كتابه «محمد فوزي – الوثائق الخاصة» الكثير من الأسرار حول حياة الفنان الراحل، أحد أعلام الموسيقى والغناء في مصر والعالم العربي، وأحد أكثر المطربين عملًا بالسينما، والحقيقة أن أشرف غريب من أقدر الكتّاب على تناول هذه الشخصية التي تكتنف حياتها وإبداعها الكثير من الغموض مطربًا وملحنًا وممثلًا، فأشرف من أكثر العاملين في مجال الصحافة الفنية اهتمامًا بالموسيقى والسينما على حد سواء، كما أنه يحرص دائمًا على أن يوثق المعلومات ويراجعها بحس الباحث العلمي الذي يسعى للوصول إلى الحقيقة بموضوعية وجدية وحياد، وهو ما سبق أن حققه في مؤلفاته الغزيرة ومنها «الوثائق الخاصة لليلى مراد»، و«العندليب والسندريللا الحقيقة الغائبة» و«عز الدين ذو الفقار الحب في زمن الثورة».
يرى أشرف غريب أن فوزي قد طالت سيرة حياته يد العبث والاستسهال، بل الافتئات أيضًا، من أول تاريخ ميلاده وحتى ملابسات رحيله، مرورًا طبعًا بأهم ملفات في حياته: نشأته وبداياته العملية، وزيجاته وعلاقاته النسائية، وأصدقائه ومعاركه الفنية، ومواقفه بين خصومة عبدالوهاب ومحبة أم كلثوم، ومواقف الآخرين منه، بين وفاء فريد الأطرش وذكاء عبدالحليم حافظ، ونقاط تماسه مع السياسة ورجالها، وبخاصة الرئيسين: محمد نجيب وجمال عبدالناصر، ومصنع أسطواناته وحقيقة ما دار حوله، ثم مرضه الغامض وموقف الدولة منه.
يستهل غريب كتابه بالبحث حول زمن الميلاد والبدايات رغم ما واجهه من صعوبات جمة في تحديد التواريخ وترتيب الوقائع الخاصة بمشوار هذا الفنان، وهو يربط زمنيًّا بين ميلاد فوزي الذي يسبق ثورة 19 بعام واحد، ومرحلة بدايات تخلص الموسيقى المصرية من إرثها التركي بقوالبه الجامدة وسعيها نحو تحقيق شخصية فنية مستقلة، عبر رموز مهّدوا الطريق، منهم سلامة حجازي وسيد درويش.
يتتبع بعد ذلك رحلة كفاحه من أجل ممارسة فنه، على الرغم من رفض عائلته التي كانت ترى أن عمله في هذا المجال يسيء للأسرة، لكنه أصر على مواصلة طريقه معتمدًا على نفسه، متحمّلًا كل المشاق والظروف المادية الصعبة، وهو بإحساس فطري أدرك قيمة العلم فتعلم الفن بمنهجية، ولم يكتف بالدراسة بمعهد الموسيقى العربية بل إنه درس أيضًا بمعهد سوليتش للموسيقى الغربية، من هنا تستطيع أن تجد تفسيرًا للروح الشرقية في فنه المطعمة بالموسيقى الغربية بمزيج مدهش لا تُخطئه الأذن، كما يؤرخ الكتاب للخبرة العملية التمثيلية التي اكتسبها مبكرًا من العمل بالفرق المسرحية الاستعراضية، خاصة لدى ملكة المسارح بديعة مصابني، وسارة برنار الشرق فاطمة رشدي، والفرقة القومية المصرية تحت قيادة المخرج الرائد زكي طليمات، مما يفسر سرعة نجاحه ولمعانه في التمثيل في السينما.
يستعرض غريب أفلام فوزي الـ36 التي لعب بطولتها تمثيلًا وغناءً ووضع معظم موسيقاها وألحانها، وهو يكشف عن الدور الذي لعبه هذا الفنان في تقليص المدة الزمنية للأغاني داخل الفيلم، لكي لا تهبط بالإيقاع كما كان معتادًا في مرحلة الخمسينيات، وهو أيضًا يؤكد الطابع المرح الخفيف لغالبية موسيقاه التي أسهمت بشكل كبير في جاذبية المشاهد، وينبه إلى دوره الكبير في مجال الأغنية الثنائية ومن أشهرها: شحات الغرام، بل الثلاثية أيضًا، مثل: «يا محمد يا حبيب زملاتك»، ويشير إلى تنوع القوالب والأشكال الغنائية التي قدمها مما سمح لمخرجي أفلامه بمساحة أكثر اتساعًا من الأفكار المصاحبة لتلك الأعمال الغنائية، فغصت أفلامه بالاستعراضات الكبيرة والمتنوعة.
يكشف غريب أيضًا عن محاولات فوزي المستمرة في كسر الصورة النمطية للمطرب في السينما، فهو يتخلى عن الشياكة والاهتمام بالمظهر إذا تطلبت الشخصية ذلك، كما أن أدواره شهدت تنوعًا كبيرًا في الشكل والمضمون والوظيفة من طيار إلى مساعد سائق قطار، ومن مطرب مكافح إلى موظف بسيط، كما أنه استطاع أن يمنح معظم شخصياته طابعًا مرحًا ليتخلى عن الشكل التقليدي الجاد السائد، فيؤدي بطريقة مثيرة للضحك أو حتى السخرية حسب طبيعة الشخصية، حتى لو جاءت على حساب الصورة الذهنية التي يسعى النجوم غالبًا للحفاظ عليها، فهو لم يكتف ببطولة الأفلام العاطفية، بل شارك أيضًا في أفلام ذات طابع كوميدي خالص أو مأساوي حزين أو اجتماعي إنساني.
يوثق الكتاب أيضًا للدور الكبير الذي لعبه فوزي في مجال أغنية الطفل والأغاني الوطنية والدينية، فإذا كان الأكثر انتشارًا له أغانيه العاطفية الخفيفة، فنتعرف من خلال كتاب غريب على إنتاجه الغزير في مختلف أنواع الأغاني وتفوقه فيها.
يتتبع الكاتب بدأب قضايا شائكة ارتبطت بإبداع فوزي ومنها قضية أغنية الفرانكو آراب الأشهر يا مصطفى يا مصطفى التي من كثرة مراحلها وأحداثها يكاد يجهل نتائجها الكثيرون، لكن غريب يتابعها حتى آخر مراحلها حتى يونيو 1978، حين أقرت المحكمة بأحقية ورثة محمد فوزي في الأداء العلني للأغنية، وبناء عليه أثبتت جمعية المؤلفين والملحنين بالقاهرة في سجلاتها أن الأغنية محل الخلاف من ألحان محمد فوزي.
يتكون الكتاب من 378 صفحة من القطع المتوسط، وهو يشتمل على الفصول أو المشاهد التالية كما يسميها: مشوار المجد والدموع، تعب الهوى قلبه، معارك بلا ضحايا سيدتان معه للنهاية- نجيب وناصر والسنوات العجاف.
في الفصل الأخير على وجه التحديد يروي الكاتب بأسلوب شائق قصة إفلاس ومرض فوزي وعلاقته برجال الحكم بعد ثورة يوليو 1952، هذا الموضوع الذي اختلفت حوله الآراء بين الاعتقاد بأن فوزي تعرض لظلم بيِّنٍ، والتشكيك التام في هذا الاعتقاد. وهو يتركك لبعض الوقت تتخبط بين آراء وتصريحات هنا وهناك، ثم يدعك في بعض اللحظات تصدق الروايات الشائعة ثم تكذبها تارة، ثم يعود ويقدم لك وثائق نادرة، تضعك أمام حقائق جديدة تقلب الصورة رأسًا على عقب، وتجعلك تعيد النظر في كل ما سبق.
يذيل أشرف كتابه بمجموعة من الملاحق التي تتضمن المزيد من الوثائق والصور النادرة، فضلًا عمّا هو موجود في متن الفصول، وبالتوازي مع ذكرها والإشارة إليها.. كما تشتمل الملاحق أيضًا على قوائم بأفلام محمد فوزي كممثل، وأفلام لم يشارك فيها بالتمثيل، وإنما بالموسيقى والألحان، وكذلك بالألحان الغنائية لنفسه ولغيره من المطربين والمطربات.