رامي عبدالرازق
«كنت أزداد اندماجًا في الرقص، ولا شيء في رأسي أو عيني سوى رقبة مطر ابن خالتي، ورقاب أمين الشريط، والمخبرين، ومآذن القلعة وقبابها، والأهرامات، وبرج القاهرة، وبرج التليفزيون. كل ذلك يتلوى تحت قدمي في دوامة عنيفة تبلعني وتلفظني، لتبلعني ثم تلفظني، لكنني كنت أشعر كأنني الفراشة، التي ارتفعتْ بعيدًا، بعيدًا عن أكوام القمامة».
هكذا تنتهي قصة سارق الفرح للكاتب المصري الكبير خيري شلبي «1938-2011» التي جاءت ضمن المجموعة القصصية التي تحمل العنوان نفسه، الصادرة عام 91 بالقاهرة.
يمكن القول إن هذه النهاية هي التي ربما أوحت للمخرج المصري داود عبد السيد بطبيعة المعالجة التي قدمها سينمائيًّا للقصة عام 94 في فيلم يحمل العنوان نفسه من كتابته وإخراجه، حيث يلعب الرقص عنصرًا شعوريًّا وسرديًّا شديد الحيوية داخل بنية السيناريو.
من بين تسعة أفلام أخرجها عبد السيد عبر ربع قرن تقريبًا تمثل تجربتا الكيت كيت عن رواية مالك الحزين لإبراهيم أصلان، وسارق الفرح، نموذجَيْنِ رائعيْنِ لدراسة ما يمكن أن نطلق عليه في مسألة الاقتباس «تخريب الرواية» من أجل إعادة بنائها سينمائيًّا، فكلا العملين يمثل تطبيقًا للعديد من مبادئ الاقتباس التي تشكل الجسر الحي ما بين حبر الكلمات وضوء الشاشة.
في القصة الأصلية القصيرة، الشخصيات التي تتحرك قليلة وحركتها مركزة وتاريخها مكثف، بلا عنصر نسائي ظاهر أو فعال، بل مجرد ظلال في خلفية الحدث، والحدث هو سرقة عوض البياع السريح ساكن عشش زينهم فوق جبل المقطم لحذاء أخيه مطر الطبال، بعد أن وصلته معلومة أن ثمنه 150 جنيهًا، وهو ثروة في زمن القصة التي تدور في السبعينيات- وذلك من أجل أن يتزوج وهيبة ابنة بيومي منادي السيارات، دون أي اعتبارات للأخوة أو الحرمانية أو العواقب المتمثلة في إبلاغ مطر للشرطة وحضور المخبرين في النهاية للقبض على عوض ليلة فرحه.
القصة كلها عبارة عن قراءة اجتماعية في واقع منحط ذليل، تحت أحذية التهميش والفقر، وغياب أي نوع من العدالة المجتمعية، في ظل غول الانفتاح الاقتصادي المنفلت الذي بدأ في منتصف السبعينيات والمشحون بتكتلات وهمية عن الثروة والاستهلاك والبضائع التي هي أهم من البشر وأكثر قيمة. بينما تعكس شخصية عوض نفسية المهمشين الذين يرون أن لهم الحق في أي متن ما دام أن أحدًا لم يضع لهم اعتبارًا أو ينظر لهم بعين التقدير لمحاولاتهم أن يظلوا على قيد الإنسانية.
وكما ورد في النهاية التي أشرنا إليها فإن البلد كلها من عيني الراوي، وهو ابن خالة عوض، تبدو غير نظيفة وغير مرتبة وعشوائية تحكمها قيم الزيف والتدليس واللصوصية والهدر وفقدان المعنى، ومن ثم تأتي المفارقة المتمثلة في أن بيع الحذاء الغالي يكفي لشراء ذهب الشبكة، فما يسير في الوحل والقمامة هو نفسه ما يمكن أن يفك الكرب العاطفي والجنسي لاثنين من شباب العشش «عوض ووهيبة» بالنيابة عن كل من يمثلانه من المهمشين.
الكاميرا/ المنظار
لا تظهر المدينة في الفيلم إلا من بعيد، في اللقطة الأولى تتحرك الكاميرا من المباني الشبحية التي تظهر أسفل جبل المقطم غارقة في العوادم والأتربة الداكنة إلى التلال التي تتناثر فوقها العشش العشوائية الباهتة. يدفع السيناريو بزمن الأحداث عشرين عامًا إلى الأمام إنتاج 1994، ويبدأ مع شراء القرداتي «ركبة» لمنظار يجعله يرى الأشياء أقرب والأجساد أوضح وأكثر سخونة، يصعد ركبة فوق فنطاس الماء لكي يقدم لنا عبر المنظار بعضًا من شخصيات الفيلم، عوض وابن خالته عنتر، الذي تحول من الراوي في القصة إلى صديق البطل وصفيّه، وشطة العائد من السعودية بالكاسيت الضخم دلالة الثراء في المخيلة الشعبية، ولكن الأهم من هؤلاء هن الشخصيات النسائية التي يطبق من خلالهن عبد السيد مبدأ «فتش عن المرأة» في الاقتباس.
في السيناريو تتحول وهيبة إلى أحلام التي قدمتها لوسي، ودلالة الاسم واضحة بالطبع، وبدلًا من كونها مجرد محفز في القصة، تتجسد هنا في شخصية من لحم ودم ورقص، ويضيف إليها عبد السيد أختها رمانة «حنان ترك».
نعود إلى المنظار، فالسيناريو يأخذ في اعتباره معالجته أن ينغمس في عوالم المهمشين سكان ما يُعرف في مصر بالعشوائيات، وحركة المنظار في البداية بين العشش والشخصيات هي إرهاصة بطبيعة البيئة والعالَم الذي سوف ينغمس فيه خلال زمن الفيلم.
الرقص والبكاء
لا يترك عبد السيد تفصيلة في القصة دون أن يستغلها بصريًّا ويعيد إنتاجها عبر ماكينة اقتباس دقيقة النظرة. فعلى مستوى مبدأ «فتش عن المرأة» تضاف شخصيات أحلام ورمانة كما أشرنا بالإضافة إلى شخصية العاهرة نوال «عبلة كامل» العائدة من لبنان بعد الحرب الأهلية، وهي شخصية مستوحاة من حديث الراوي في القصة عن العاهرات اللائي يحضرهن بعض الشباب أسفل الدحديرة «المنزل الصخري المظلم خلف العشش»، وهي الشخصية التي تدخل في علاقة مفعمة بالصدق والشغف مع عوض، وتصبح محط أزمة بينه وبين أحلام قبل زواجهما، خاصة عندما تكتشف أحلام علاقتهما، وتقوم بضرب عوض وإصابته، بشكل يجعله يلعن اليوم الذي أحبها فيه.
أما ركبة القرداتي فقد استوحاه عبد السيد من حديث الراوي عن الشخص الذي قام بتدريب مطر على ضرب الرق وعزف الطبلة، ليرث مهنة القرداتي «مهنة شعبية منقرضة يلاعب فيها شخص يحمل رقًا قردًا صغيرًا بشكل استعراضي»، ولكن مطر يتمرد على المهنة المنقرضة ويصبح طبالًا تتلهف عليه خصور راقصات شارع الهرم.
ينجح عبد السيد في تضفير الشخصيات الأصلية مع الشخصيات المضافة سواء نسائية أو رجالية، فنوال تُذكي الصراع العاطفي بين أحلام وعوض. والقرداتي ركبة يعشق الشابة رمانة وتصبح هي السبب في موته سعيدًا في النهاية عندما ترقص بهيستيرية على دقات رقه وتذهب إليه كي تمنحه بعضًا من سعادة مقابل منحها رقصة مفعمة بالشبق والنشوة، ولكنه من فرط السعادة يحاول أن يطير من فوق الجبل فيقع ميتًا؛ ما يتسبب في أن يدفع عوض مبلغ الشبكة من أجل أن يُهيِّئ له الغسل والتكفين والدفن في المقابر الملكية المهجورة أسفل المقطم.
وبجانب الشخصيات المضافة يستخدم عبد السيد عنصر الولي الشعبي الذي يلجأ إليه أهل الحي العشوائي -كما سيدي المغربي في فيلم الكيت كات- وهو العنصر الذي يمثل محاولة الاتصال الأرضي بالسماوي في شخصيات أفلامه، وهي لحظات البوح العارية من أي محاولات للإنكار أو تجميل الذات، بل نرى الدموع الصريحة والبكاء العارم دون خجل من الضعف أو إظهار المذلة.
وعلى ذكر البكاء ففي مقابل عنصر الغناء، الذي يستخدمه عبد السيد في صياغة بعض المشاهد في قالب خفيف وعميق في الوقت نفسه- وعنصر الرقص الذي أشرنا إليه فإن البكاء يمثل عنصرًا انفعاليًّا مهمًّا في صياغة البنية الشعورية للشخصيات. ويكفي أن نشير إلى مشاهد بعينها مثل بكاء عوض وأحلام حين يرفض الأب بيومي خطبتهما بسبب خوفه من كلام الناس عقب ضرب عوض لشطة حين علم أنه ذهب لخطبة أحلام، ومثل غالبية مشاهد أحلام التي تشعر فيها بالقهر وقلة الحيلة والهوان على الحياة، ومثل مشهد بكاء عوض بين ذراعي عم ركبة بعد إطلاق سراحه من القسم عقب استدعائه لكي يعترف أنه سرق حذاء أخيه وملابسه.
«ضربوك يا عوض
كتير يا عم ركبة
وبكيت يا عوض
لا بس نفسي أعيط».
صحيح أن مطر يتنازل عن البلاغ، لكنه يخرج ليبكي هو الآخر خارج القسم، ويبكي عوض بعد الإفراج عنه، ويبكي معه ركبة من شعوره بالحب المستحيل تجاه رمانة، وهو يعترف لعوض بذلك.
إن الحزن المولود من أثر الحب المستحيل والشغف المستحيل مضافًا إليه البكاء المتقاطع مع الأحداث، رجالًا ونساء على حد سواء، والرقص في محاولة للتهوين والتحرر والانفلات كل هذا يُشكِّل معادلة سارق الفرح وبيئتها الشعورية، قبل محاولة الإجابة على سؤالها الوجودي والاجتماعي الفاضح: من هو سارق الفرح؟!
يدفع السيناريو عوض لبيع ملابس أخيه وحذائه عبر الحلم الشهواني الطويل الذي ترقص له فيه أحلام بعدة بدل رقص منعشة، وهو دافع عاطفي وجنسي، كجزء من توجه المعالجة وهو الحق في الحياة بكل مشتملاتها الغرائزية والشعورية، فالفيلم يأتي كقراءة لواقع المهمشين الذين قد يدفعهم للتمرد لا من أجل المال ولكن من أجل أن يشعروا أنهم بشر.
وتنتهي حدود القصة دراميًّا عند لحظة حضور المخبرين إلى فرح وهيبة وعوض، ولكن السيناريو يتجاوز هذا الحد ويمتد انفعاليًّا عبر الحالة التي تُجسِّد رقص الراوي فوق المدينة المتسخة وأكوام القمامة، وهي الحالة التي تستمر في مشاهد رقص رمانة الشبقي على دقات ركبة، ورقص لاحم لعضو في الحلم ومحاولة ركبة الرقص فوق الحافة ثم الطيران الذي يودي بحياته.
إن التهميش والقهر النفسي والمادي والاجتماعي هو سارق الفرح الحقيقي، ومحاولة تجاوز كل هذا رغم متاخمة الخطيئة وبيع النفس والجسد هو الحل القادر على طرد هذا السارق الملعون أو محاولة تجاوز ما يخلفه من بكاء ومذلة، وليس أبلغ من «زغرودة» أحلام في نهاية الفيلم عندما يشرق الصباح عليها لأول مرة في حجرة الزوجية مع عوض، وقد تحقق حلمهما الطفولي بالزواج، رغم ضربه لها بعد أن علم أنها ذهبت في سهرة ساخنة لترقص من أجل 100 جنيه، وبعد أن عمل هو نفسه كنصف قواد ونصف بلطجي مع العاهرة الطيبة نوال، ولكن كل هذا يهون من أجل لحظة سعادة شفافة يتم انتزاعها بالبكاء والرقص من كف سارق الفرح.