عبدالله الأسمري
الليل، والشخصيات المهمشة أو المنبوذة، والرحلة بين عوالم مختلفة في بقعة جغرافيا محددة توضح بدورها تطورات الزمن التي تظهر تدريجيًا حسب الإنفاق المالي والثقافة المجتمعية، والليالي الحمراء التي تقبع خلف الأبواب الموصودة، دائما ما كانت مادة غنية يستقي منها صناع الأفلام حكايات لأفلامهم، ويجعلون فيها روحهم ونظرتهم الخاصة لهذه العوالم الدونية. وفي السينما السعودية تظهر هذه الخلطة الغنية بعدة أفلام كفيلمي «ناقة» و«الهامور ح.ع»، وما زال هناك مساحة واسعة من القصص التي تنتظر دورها للظهور على الشاشة الكبيرة. فليل السعودية لدى من هم كنجم البحري «أبو معجب» وفرقة السهر، لا يشبه أبدًا نهارها المتعب بالقوانين العرفية، وهذا ضمن ما استعرضته القصة الثالثة لمحمود صباغ.
سيلفر هو نجم الصوتيات
يأخذنا الفيلم برحلة موبوءة نتتبع فيها أبطال فرقة السهر بقيادة متعهد الحفلات أبي معجب «عبدالله البراق» ابن الفنانة كاكا عرابة أفراح جدة، الذي ظل مرافقًا لها، وتشبع منها ذلك الفن الزاخر بألوانه الطربية المتنوعة، ولكن في زمن كان الانفتاح الفكري شبه غائب والثقافة المجتمعية محدودة لا تشابه أبدًا زمن أبي معجب، الذي تغيرت فيه ثقافة المجتمع وسلوك المعيشة بشكل مفاجئ وسريع للغاية، والذي قرر أبو معجب بموجبها وبصفة غير مشروعة تنصيب نفسه الحارس الأخير للدانة وخادمها الوفي كما يقول في أحد تجلياته: «ما يضيع الوفاء والجود وأبو معجب للدانة وتر وعود»، ويأخذنا بموجب قراره إلى رحلة يحاول فيها إيجاد تقدير مناسب لفنه وإثبات أن الدانة – بمفهومه لها – باتت على مشارف الضياع، ويحاول أيضًا ملء «الكمر البني» للتخلص من هاجس بنهام الذي قد يجعل إصبعه الخنصر مرميًا في حارة الألف مبتور. ولكن في باطن هذه الرحلة يخوض أبو معجب حربًا ضد الزمن الذي يتقدم بسرعة هائلة لا تضاهي سرعة ذلك «الفان» العتيق، وبمعلومية نتيجة حربه الخاسرة إلا أنه مضى بعكس اتجاه الزمن لطريق يوصله بالنهاية لسيلفر، وهو الانتهاء في مكان معزول وسط ضجة يُغنى فيها التراث بشكل يشوّهه ويغادر الحياة وهو متوشح بقميص مطبوع عليه شعار شركة «صوت الجزيرة» آخر العلامات الخالدة التي تدل على العصور الذهبية للدانة. وبموت سيلفر تنتهي رحلتنا مع الفيلم؛ لأن ببساطة سيلفر هو نجم للصوتيات.
ما بين دانة أبي معجب ودانة كولا
كولا «مروة سالم» على الجانب الآخر تمثل نبرة أهدأ من أبي معجب، فهي الفنانة المتجددة التي تحمل روح الماضي، ولكن بشكل يؤهلها للالتحاق بطريق الاحتراف والذهاب لملعب آخر يجذب الكثيرين لبيئة آمنة وأكثر احترافية، كما عبر عنها عازف الكمان في حديثة لأبي معجب. ولربما كان سبب اندفاعها للخروج من ليالي فرقة «نجم للصوتيات»، هو أنها لا تملك نفس دوافع أبي معجب تجاه الدانة، وتبحث للوصول إلى نجاح شخصي وشهرة تبعدها عن طريق أبي معجب الذي لم يلحق بقطار الزمن. وهذه المعادلة بشكلها الحالي، التي ظهرت ببداية الفيلم، ترجح بأن أبا معجب هو الشرير المتسلط الذي يعوق طريق نجاحات كولا لتصبح النجمة صولا. ولكن مع تقدم أحداث الفيلم ينكشف لنا عدة أوجه لكولا وأبي معجب، ويعود ميزان الخير والشر للاعتدال نوعًا ما عندما نتفهم أكثر الفوارق بين تراكيب شخصية أبي معجب الذي اختار خوض معركة خاسرة ضد الزمن متسلحًا بروح ذلك الطفل الذي كان ينهم من تراث وفن الجزيرة العربية ورأى تقدير الناس له في زمن قد مضى ولم يمضِ هو بعكسه، وبين كولا الحالمة بما هو مشروع لأي فنان، ولكن لا يربطها تعلق مبالغ بشكل الطرب القديم يجعلها تقدم كبرى التضحيات من أجله، وربما ذلك يعود لأنها بلا أصول للمكان الذي تشبع بذلك الفن، فمن السهل توجهها لغناء أي من تلك الألوان المتجددة في حفلات علنية تُقص لها التذاكر ويُدفع ثمنها بالباركود.
جدة.. «ليل/ خارجي»
لا يمكن التطرق لتغيرات الزمن دون إشراك المكان فيها، وفي رحلة فرقة السهر رأينا حضور جدة الطاغي على شاشة السينما مكونةً صورة معبرة توقف الصباغ على كل تفصيلية فيها ورسمها بريشة خبيرة بمعالم وأبعاد مدينة جدة، التي تضم تنوعًا ثقافيا وحضاريًا هائلين شكلا عبر الزمن وجهًا لمدينة حالمة ومتطلعة لشكل لا يشابهها فيه أي مدينة أخرى في المملكة، واستمد الصباغ كل هذا واتجه به لما هو أبعد من شكل المدينة الخارجي، وتوغل في قصته لمناسبات نرى فيها بيوت الغجر، ومواقع تنظم فيها الحفلات بشكل علني، وحفلات أخرى تنظم في مواقع سفلية محاطة بأجواء مربكة داخل قاعات لا تنفذ إليها إلا عند نطقك لكلمة السر. وجميع تلك المواقع المتناقضة بعضها عن بعض بروادها وطرق سهرهم ونظمهم للحفلات وخفاياهم المثيرة، استطاع محمود صباغ إظهارها بشكل واقعي ومميز، وصنع من خلالها فيلمًا باهرًا ينم عن دراسة مستفيضة قد أجراها عن هذه العوالم، واختار إيصالها بقصة إنسانية، بسيطة وممتعة في تلقيها، وعميقة في مضامينها، مبتعدة كل البعد عن الخطب الرنانة أو الانحياز لجانب عن الآخر.