رامي عبدالرازق
«السقّا مات» رواية مراوغة، صعبة، لا تمنح نفسها بسهولة للقارئ رغم لغتها السلسة وخيالها الهادئ، وصفية كأن كاتبها يوسف السباعي، اتخذ من أسلوب القلم والكاميرا تكنيكًا بصريًّا لها. سرديتها قائمة على جغرافيا البشر والأماكن، كل ما يقع أمام عدسة القلم يتم وصفه بدقة، سواءٌ كان بيتًا في زقاق ضيق، أو امرأة تدير مطعمًا لفاكهة اللُّحوم، رواية بطلها الأساسي حاضر بشدة ومتوارٍ خلف عباءة الغيب.
هذه رواية بطلها القلق الإنساني، قلق الخوف من الموت! تدور أحداثها في بدايات القرن العشرين، وأبطالها سقّا «رجل يوصل الماء للبيوت» ومطيباتي جنازات «رجل يسير أمام النعوش لتشييع الموتى»، وطفل صغير يتيم الأم هو ابن السقا الذي تكاد تكون الرواية كلها محكية من عينيه اللتين تواجهان أقسى سؤال في العالم «لماذا يفقدنا الموت أحبتنا؟»
لم تكن تلك المرة الأولى التي يشتغل السباعي فيها على فكرة الخوف من الموت، حملت روايته الأولى الشائكة بالمنظور الحالي عنوان نائب عزرائيل 1947، ولعب ملاك الموت فيها دور البطولة ولكن بصورة تخفف بطرافتها من قتامة الفكرة، ولكن يبدو أن قلق الحالة لم يهدأ في باله الأدبي والوجداني، فعاد للموت مرة أخرى بعد سنوات قليلة وراح يشتغل على رواية شحيحة الأحداث، لكنها مشحونة بتفاصيل تكاد تنطق بالتأويلات والمجازات والإشارات العميقة الماكرة.
يكفي أن نشير إلى أن الرواية تبدأ بفصول تحكي عن طفل يساعد أباه في مهنته التراثية العتيقة «سقاية الماء» وهي مهنة مرتبطة بأصل الحياة الإنسانية نفسها، لأن «من الماء كل شيء حي» الابن يُدعى سيد، والأب هو المعلم شوشة، والعلاقة بينهما قائمة على تجليات تراثية ودينية مفعمة بالدلالات. الأب يحذر ابنه من أكل ثمار الشجر الموجود في حديقة السراية الكبيرة، مكتفيًا بسقاية شجرة التمر حنة «التي هي من أشجار الجنة في المتوارث الشعبي»، والتي سنعلم في نهاية القصة أن أم الطفل الغائبة هي التي زرعتها، بينما يحرس هذه الحديقة رجل يُدعى «عم جاب الله» لكن الطفل لا يستمع إلى نصيحة أبيه وتحذيره، ويقطف من شجرة الجوافة ثمرة محرمة فيطارده الحارس، ويطرده ليؤنبه أبوه على عصيانه لنصيحته.
سيد إذن هو طفل يعيش ما بين الجنة والأرض، وهو صنيعة المحاكاة الأدبية لقصة الإنسان منذ بدء الخليقة، في رواية تتحدث عن القلق العميق من فكرة الفقدان على إطلاقها، فقدان النعمة أو المتعة أو الأب أو الأمان.
الاختبار الصعب
تُعدّ «السقا مات» واحدة من اختبارات الاقتباس السينمائي الصعبة، فالرواية وصفية كما أشرنا، وصفحات الوصف يمكن أن تُختصر في لقطات قصيرة ولا تشكِّل دسمًا دراميًّا حتى وإن كانت مفعمة بالمجاز، ولا تحتوي الحكاية إلا على أحداث قليلة جدًّا رغم عدد صفحاتها الذي يتجاوز «330 صفحة». ومقدمة الحدث الرئيس فيها، وهو لقاء شوشة السقا بشحاتة أفندي في مطعم زمزم، وانطلاق شرارة صداقتهما الوجودية العميقة لا تأتي إلا بعد 50 صفحة تقريبًا من الوصف السمعي البصري لجغرافيا البشر والأماكن.
كما أنها تتبع سيد في تلقيه لأسئلة العالم أكثر مما تلتصق بشوشة وشحاتة رغم إخلاص الراوي، الذي نسمع صوته بوضوح من البداية ثم يتوارى تدريجيًّا إلى تفتيت وجدان وفلسفة كل منهم، ورصد التحولات الكبيرة التي يعيشها شوشة، خاصة تلك المرتبطة أساسًا برحلته الروحية الغامضة من كراهية الموت إلى فهم الحياة.
لا غرابة إذن في أن يحمل فيلم السقا مات توقيع المخرج الكبير يوسف شاهين كمنتج، بعد تأسيس شركته أفلام مصر العالمية في السبعينيات، الفيلم إنتاج 77، وبصمة المخرج الكبير أيضًا صلاح أبو سيف، في ثاني تعاون له مع السيناريست الشاب آنذاك محسن زايد، بعد فيلمهما الإيروتيكي الذي مُنع من العرض «حمام الملاطيلي» عن رواية إسماعيل ولي الدين، في حين جسد عزت العلايلي دور السقا شوشة، وفريد شوقي دور شحاتة أفندي في أكثر مراحله الفنية نُضجًا، وقدم دور سيد الطفل شريف صلاح الدين، وهو دور شديد الصعوبة لأنه يحتاج إلى عفوية كبيرة تحتاج إلى خبرة لا تتوافر لممثل صغير لا يملك سوى طفولته.
فتش عن المرأة
يمكن القول إن من بين مبادئ الاقتباس التي قام السيناريو باستخدامها في صياغة النص سينمائيًّا مبدأ يمكن أن نطلق عليه «فتش عن المرأة»، أي توظيف العناصر النسائية الشحيحة بالمناسبة في دراما الرواية أو إضافتها في حال غيابها، وذلك لتحفيز الصراع والرفع من شأن الحبكة على مستوى الجاذبية وحماس المتابعة.
في الرواية يبدو شوشة زاهدًا في صنف الحياة كله، لا مال ولا نساء ولا سلطة، كل ما يعنيه أن يربي ابنه سيد على قيم الإخلاص والشرف والأمانة، كراهب بلا غرض ولا شهوات، ويستغل السيناريو هذا الزهد كعنصر جاذبية ذكورية من عيني عزيزة نوفل، التي تمر عابرة في الرواية كعاهرة تعيش في الحي وقت انتشار البغاء شبه الرسمي الأحداث تدور عام 1921- التي تصبح السبب المباشر وغير المباشر في وفاة شحاتة أفندي، وهو يستعد بالطعام والمقويات من أجل أن يلتقي بها بعد أن دفع للقواد الذي يدير أعمالها المنافية.
يمد السيناريو خطًّا غير موجود بالرواية بين غواية عزيزة نوفل قدمت الدور شويكار، ورفض السقا شوشة وامتناعه، وذلك للتأكيد البصري والدرامي على زُهده، ويحافظ على كون عزيزة هي حلم شهواني دنيوي ساخن يلهب خيال شحاتة أفندي، فنراه في مشاهد عديدة يتخيلها وهي ترقص له، وتستدعيه بغنج هائل إلى فراشها، فيزداد تورُّطه في حمى الأعداد للقاء، لكنه يقابل وجه كريم قبل أن يحدث.
ثم يمد السيناريو خطًّا آخر غير موجود أيضًا بالرواية، وهو علاقة الحب من طرف واحد من ناحية زكية باتجاه شوشة أيضًا. وزكية هي بنت المعلم الخشت الجزار جيران شوشة وحماته العمياء أم آمنة، قدمت الدور الجليلة أمينة رزق، التي تسعى إلى أن تُزوِّج أبا حفيدها من الفتاة الصغيرة كي ترعى شؤونه وشؤون ابنه العفريت سيد.
لكن شوشة لا يتلفت إلى زكية مطلقًا، رغم كل نظراتها الولهانة وتنهداتها العذرية المفعمة بالشوق والمحبة. فكلٌّ من عزيزة وزكية هما وجهان لعملة الحياة التي يزهد شوشة في صرفها أو التعامل بها. واحدة تمثل غواية الجسد والثانية مغناطيس المشاعر العاطفية الحالمة.
وعملًا بنفس المبدأ يستدعي السيناريو الفصل الأخير من الرواية «كيف ماتت» الذي يكشف فيه النص عن سر زهد شوشة وكراهيته العنيفة لفكرة الموت، حيث يحكي الفصل التراجيدي عن علاقة شوشة بأم سيد «آمنة» التي كانت خادمة في السراية الكبيرة «معادل الجنة الأرضية في النص»، اللتين اجتمعت مشاعرهما حول شجرة التمر حنة حين غرستها الخادمة الجميلة ورواها السقا الشاب، لكن آمنة تموت وهي تحضر سيد إلى العالم، تموت ضمن سياق الدلالات العديدة التي تتزاحم أكتافها داخل أروقة النص، حيث «يخرج الحي من الميت»، يخرج سيد من جسد آمنة الذي يسلم الروح، ويسلم معه شوشة الرغبة في الحياة والقلق من فقدان آخر بموت جديد لا يعرف متى أو من يصيب!
وبدلًا من كونه ذروة فلسفية لأصل مشكلة شوشة ولحظة تنوير مهمة لسيد، يعيد السيناريو إنتاجه كذكريات متقطّعة، وعناصر تؤسس من خلالها شخصية شوشة وأزمته الوجودية، فنراه يتذكر آمنة في فلاش باك متناثر في الفصل الأول من الفيلم، عقب غواية عزيزة أو تلميحات أم آمنة، بما تكنّه له زكية من مشاعر وانتظار لطلب يدها.
عرش الصبر
يبدأ السقا مات بمشاهد لمساجد القاهرة المملوكية حيث تدور الأحداث كما الرواية بينما شريط الصوت هو أذان الفجر بداية العالم والوقت الذي ينهض فيه شوشة لملء قُرب الماء من أجل السقاية هذه البداية ذات الدلالات الدينية تقوم على تأصيل أن فكرة السيناريو ليست في اتجاه معاكس أو مناقض لأصل حضور الموت في الخيال الشعبي أو الديني. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ترسم في لقطات سريعة كما أشرنا جغرافيًّا المكان الذي تستغرق الرواية صفحات طويلة في وصفه.
بالإضافة إلى ذلك، فإن السيناريو لا يتجاهل الآيات الكريمة التي تتحدث عن الصبر والصابرين خاتمة الرواية أصلًا تأتي تحت عنوان «وبشر الصابرين» فشوشة لا يجد سوى الصبر عرشًا كي يصعد فوقه احتماءً من ذكرياته الدامية عن رحيل زوجته. وحين يموت شحاتة أفندي ويقرر شوشة أن يرتدي بدلته ويعمل في مهنته، مطيباتي جنازات، في محاولة منه لأن ينتصر على فكرة القلق من الموت، تخور قواه الروحية التي تحتاج إلى مزيد من الوقت، كي تتأقلم على القرب من أكثر خاطرة مرعبة بالنسبة له.
كما يصبر شوشة على كون حنفية الماء، المصدر الرئيس لتوزيع المياه في تلك الفترة التي كان السكان يعتمدون على حنفيات الماء العمومية لتأمين احتياجاتهم بجانب السقاة، يتولى إدارتها رجل فاسد ومغرور، والغرور هو الخطيئة الأساسية التي يحذِّر شحاتة أفندي شوشة منها، لأن الإنسان المغرور يتعالى على الموت ويكرهه، في حين أن السوي يتقبّله كحقيقة من حقائق الوجود، لا يجب أن تعوق حب الحياة، والغرور هو خطيئة الشيطان الأساسية كما هو معروف.
أخيرًا وبعد كل هذا الصبر يصعد شوشة إلى عرش الماء، حيث يخلصه عمله المرتبط بالموت من الزهد وكراهية الحياة، فيجمع شوشة بين النقيضين: يضرب مسؤول الحنفية المغرور في فرح زكية بعد أن فاته أن يتزوجها، ويتولى إدارة الحنفية بتكليف من شركة المياه، وفي الوقت نفسه يعمل كمطيباتي جنازات لتشييع الموتى لمثواهم الأخير.
لكن السيناريو يخالف نهاية الرواية، فلا يسلم السقا للموت دفنًا تحت ركام منزله المتداعي، لكنه يحتفي بكونه تخلص من كراهية الموت، وتولّي المنصب الذي يستحقه، وتصالح مع الحياة بمشتملاتها الصالحة والطالحة، ووعد ابنه بهذا الوعد المجازي «ألا يموت أبدًا»، وهو ليس وعدًا بخلود الجسد ولكن ببقاء فكرة المصالحة بين الحياة والموت حية كما الماء الساري من الحنفية، أو الذي ينتهي به الفيلم وهو يهبط من قربة السقا، الصغير سيد، بينما يروي شجرة التمر حنة، شجرة الجنة على الأرض. فالحياة جميلة رغم الموت، وتستحق أن تُعاش مهما كانت قصيرة أو خفية المعاني.