روجر إيبرت
روما ليس ببعيد، كانت الطائرات الكبيرة تهبط في مطار روما. حلقوا منخفضين فوق سفينة غليون رومانية تتأرجح في أمواج البحر الأبيض المتوسط. كان هناك العشرات من الصناديق المنتشرة على طول الشاطئ بجوار الغليون، وامتدت فوق أحد الصناديق جثة ملفوفة بالشاش.
وقف عشرات الأشخاص الغريبين ينظرون إلى الجثة وكانت وجوههم وردية، أو خضراء، أو صفراء، أو أرجوانية. كانوا متواجدون هنا لقراءة الوصية.
تقدم أحد الرجال وقرأ من المخطوطة: «لا يمكنكم الحصول على سنتٍ واحد من أموالي حتى أن تفوا بالشرط الذي وضعته. لا يوجد بينكم شخص ذكي بما يكفي لإنفاق أموالي حتى تنفذ عقولكم الغبية هذا الشرط. التهموني أولًا، ثم قسموا كنزي بينكم».
قال فيديريكو فيليني: «أتعْلم… أن الوضع يُشبه مشهداً من أفلام فيليني». ابتسم من تحت قبعته السوداء المسطحة، تلك التي يرتديها دائمًا عندما ينتج فيلمًا، وهي نفس القبعة التي ارتداها مارتشيلو ماستروياني في فيلم 8½.
وأضاف: «لم نقرر بعد ما إذا كان سيضاف مشهدًا فعليًا لأكل لحوم البشر أم لا. أحيانًا أريد إضافة هذا المشهد، وأحيانًا أخرى لا».
انتهى المشهد، وتفرق الممثلون لترتيبات وجبة الغداء. كان من بينهم رجلًا عجوزًا برقبةٍ طويلة تشبه رقبة الطيور، وآخرون بأنوفٍ كبيرةٍ جدًا، أو آذان ترفرف في الهواء، أو عيون قريبة جدًا من بعضها. لم يكن هناك ممثلًا واحدًا «طبيعيًا»، أيًا كان ما يعنيه ذلك، وبينما كانوا يتجولون معًا، بدوا مُحرَجين للعثور على العديد من الشخصيات الغريبة الأخرى هنا.
قال فيليني: «سألني الناس، أين وجدت هذه الوجوه؟، حسنًا إنهم ليسوا ممثلين محترفين، ولكن تنبع هذه الوجوه من أحلامي الشخصية. لقد فتحت مكتبًا صغيرًا في روما وطلبت من الناس الذين يظهرون بمظهر غريب الحضور. هل تعلم أن نيرو كان يعاني من هوس تجاه العجائب والأشخاص الذين أشكالهم غريبة؟ كان يحيط نفسه بهم».
فعل فيليني الشيء نفسه مع فيلم «Fellini Satyricon»، وهو أول فيلم له منذ فيلم «Juliet of the Spirits» الذي عُرض عام 1965. ترك التصوير وتنحى جانبًا لمناقشة مصوره، وبطريقة غريبة بدا وكأنه يخطو إلى فيلمه الخاص. يتناقض زيه «الأحذية، والسراويل الزرقاء، ومعطف جلدي بياقة من فراء الخروف، والقبعة الإسبانية ذات العلامة التجارية» مع التوغا «الزي الروماني؛ رداء فضفاض» الذي يرتديه ممثلوه، ولكن بنفس الطريقة التي يتحكم بها زي مدير الحلبة السيرك المحيط به.
وقفت الكاتبة الأميركية آيلين هيوز، والتي وقتها تكتب كتابًا عن فيليني، تتأمل فيه، ثم قالت: «طوال يوم السبت، انتظرنا أن تغطّي السحب الشمس. عادةً ينتظر المخرجون ضوء الشمس، لكن فيليني ينتظر الظلام».
انتهى فيليني من نقاشه، ثم استدار واحتضن الآنسة هيوز. وهتف باللغة الإيطالية بدعابة مبالغ فيها: «Mon amore!» «بمعنى حبيبتي!». قالت له بحب: «هل تعرف من أنت؟ أنت كدمية الدب المحشو.. كدمية دبدوب دافئ ولطيف ورائع».
سأل فيليني مستغربًا: «ما هذا؟ ما هي دمية الدب؟» شرح له مترجم باللغة الإيطالية، فظهرت ملامح التساؤل على وجهه وقال: «نعم، بالضبط! دمية دب! تعالي يا حبيبتي لنتناول الطعام». «واستخدم هنا أيضًا عبارة Mon amore».
تبع موكب صغير فيليني نحو مكان استراحته في موقع تصوير فيلم «Satyricon»، مثل المسيرات الصغيرة التي تتبع باستمرار شخصيات الرئيسية في السير الذاتية في أفلامه. كان شيئًا صعبًا ألا تتبعهم وتلحق خطواتهم. أجلس فيليني ضيوفه، وقدم لهم ما وصفه بأنه «وجبة فرنسيسكانية فقيرة»: الطماطم والجبن والبيض ومعكرونة الرافيولي بالإضافة إلى البازلاء والبطاطس والخيار وشريحة لحم العجل مع الخبز والنبيذ.
سأل أحد الإعلاميين: «متى ستنتهي؟». سأله فيليني:«من الجبن؟». رد الرجل: «لا، من الفيلم». قال فيليني بدعابة: «بعد أن ننتهي من هذا الجبن».
قسم قطعة خبز إلى نصفين وحشاها بالبصل والطماطم والجبن بين نصفيها. كان يتناول الطعام بسرعة وكأنه في منافسة: ربما كان طفلًا من عائلة كبيرة. لم يتم توضيح هذه النقطة أبدًا، لأنه بدأ يتحدث عن فيلم Satyricon.
قال فيليني: «سيكون هذا الفيلم خيالًا علميًا. هل أنتم مندهشون؟ لكن يمكن أن يكون الخيال العلمي في الماضي وكذلك في المستقبل. يروي الفيلم رحلة عبر الزمن إلى عهد نيرو، مما يعني أنها رحلة إلى بعدٍ غير معروف. ماذا نعرف عن الرومان؟ لقد سبب لي هذا الأمر العديد من التحديات. كانت جميع أفلامي الأخرى تروي السيرة الذاتية بدرجة أو بأخرى، خاصة فيلم La Dolce Vita وفيلم 8½ وكذلك فيلم Juliet of the Spirits. لكن يجب أن أفصل نفسي الآن من كل أعمالي القديمة، وكان ذلك أمرًا شاقًا للغاية».
وأضاف: «أولاً يجب أن اشكل عالم نيرو. ثم أراه من منظور ضيق للغاية، حتى يظهر غريبًا وغير معروف لي. فأنا أُدقق في روما القديمة كما لو كانت فيلمًا وثائقيًا عن عادات وتقاليد المريخيين. ليس من الطبيعي أن تتجرد من إبداعك الخاص – ولكن يجب أن أنظر إلى ابني «إنتاجي» كغريب».
أنهى كلامه برشفة من كأس النبيذ، ثم انحنى إلى الأمام مؤكدًا: قال: «إذا شاهدت الفيلم ببساطة وبراءة، فسيكون انطباعك إيجابيًا». سأله أحد ضيوفه: «ألن يكون الفيلم سيرة ذاتية؟». نفي قائلًا: «لا. لا على الإطلاق».
أعاد أحد الإعلاميين سؤاله:«هل سيكون…» قاطعه فيليني: «لا تسألني هذا، جميع الفنانين متساوون عندما يمثلون أنفسهم. جميع المخرجين العظماء ينتجون نفس الفيلم. لكن على النقاد قول شيء لأنهم يستخدمون الكلمات بدلًا من الكاميرا، وبالتالي فهم مجبرون على تعريف الأشياء وتصنيفها. فيمكنهم القول إن فيليني يخلق فيليني مرة أخرى».
بادره أحد ضيوفه بالقول: «ومع ذلك، فقد قلت إنك تنخرط بعمق في الحياة التي تصورها على الشاشة. ويقول مارتشيلو ماستروياني أنه عندما أنتج فيلم A Sweet Life معك، ابتعد عن زوجته وانتقل إلى منزلك وعشتم سويًا حياة حلوة».
ضحك فيليني بهستيرية: «مارتشيلو وأنا – رفقاء سكن؟ كيف سيفكر الناس بنا؟ صحيح أن مارتشيلو انتقل للعيش معي، ولكن لأنه كان يواجه مشاكل مع زوجته. في ذلك الوقت، طبعت إحدى الصحف الإيطالية التي تنشر الفضائح قصة -كاذبة- قالوا إنها بلسان زوجته -وهذه كذبة أخرى- «أعيش مع وحش»، بقلم فلورا ماستروياني. لقد كان مقالًا رائعًا!».
لوح بيديه بإحباط: «لكن بعد الانتهاء من الفيلم، عاد مارتشيلو إلى منزله، وأصبحوا سعداء مرة أخرى. لكني أفهم ما تقصده. نعم، عندما أنتجنا فيلميّA Sweet Life و81/2 كنت أنا وماستروياني قريبين جدًا من بعضنا البعض. كان علينا أن نكون كذلك، فقد كان يؤدي دوري. وعندما أنتجت فيلم «جولييت»، كنت -بطبيعة الحال- مقربًا جدًا من النجمة فإنها زوجتي، قبل أي شيء.
واستطرد: «لكن بالنسبة لفيلم Satyricon، فأنا لست قريبًا من أحد. أنا منعزل تمامًا. أنا لست أي أحد. لا، هذا خطأ، فأنا الجميع. أنا الجثة والبحر والشمس والقمر والنجوم والخنثى «الذي سيجسده شخص نابولي أمهق، ولكن أنا الخنثى على أي حال». أنا كل شيء! أليس ذلك رائعًا!» طرق مساعد المخرج باب استراحة فيليني ليخبره أن الوقت قد حان لمواصلة التصوير.
قال فيليني بمشاكسة: «ولِمَ تزعج نفسك؟ في البداية، كنا نلتزم بالجدول الزمني بدقة، كي لا نُهدر المال. لكن مضت فترة طويلة على ذلك. فليس لدينا الآن مشكلة مع المال، لأننا قد أنفقناه. نحن الآن في حالة من السكينة».
المصدر: rogerebert