عصام زكريا
إيليا سليمان واحد من كبار صناع السينما الفلسطينيين، أفلامه شاركت في أكبر المهرجانات العالمية، مثل «كان» و«فينيسيا» و«برلين»، وحصلت على الجوائز منها، ووضعت اسم فلسطين على خريطة السينما العالمية «سبقه بالقطع أسماء أخرى مثل ميشيل خليفي، ولكن نجاح أفلامه وتأثيرها أقل»، كما مهَّدت الطريق أمام أجيال شابة متعاقبة من السينمائيين الفلسطينيين المؤثرين على الساحة اليوم.
لكن إيليا سليمان هو أيضًا واحد من صناع السينما الكبار في العالم، بغض النظر عن «المضمون الفلسطيني» الذي تحتويه هذه الأفلام، والذي يمكن أن يكون عاملًا إيجابيًّا أحيانًا، أو سلبيًّا أحيانًا أكثر، في الطريقة التي تُستقبَل وتُقيَّم بها أفلامُه.
ربما يكون أهم ما أنجزه إيليا سليمان هو أنه استطاع أن يخرج من عباءة التعبير العاطفي المباشر عن القضية الجسيمة التي ينوء بحملها كل فلسطيني، وأن يعثر على صوته ونبرته وأسلوبه الخاص، الذي يرقى بأفلامه ليس فقط ما وراء القضية، ولكنه يرقى بجسامة هذه القضية الإقليمية إلى حد كوني.
وُلد إيليا سليمان في مدينة الناصرة بالأرض المحتلة في 1960، وفي شبابه المبكر انتقل للحياة في ولاية نيويورك حيث عاش لأكثر من عشر سنوات تقريبًا قبل أن يعود إلى الناصرة. وبدأ منذ بداية تسعينيات القرن الماضي في صناعة بعض الشرائط القصيرة كان منها «تكريم بالقتل»، 1992، الذي يدور حول حرب الخليج الثانية، قبل أن يصنع فيلمه الروائي الطويل الأول «سجل اختفاء»، 1994، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا، وحصل على جائزة أفضل عمل أول، كما شارك في العديد من المهرجانات الأخرى وحصل على عدد من الجوائز.
خلال الأعوام التالية قام سليمان بصنع ثلاثة أفلام روائية طويلة هي «يد إلهية» 2002، «الزمن الباقي» 2009، و«كما في السماء» 2019، كما قام بصنع فيلمين قصيرين هما «سايبر فلسطين» 1999، و«ارتباك» 2007 ضمن مشروع فرنسي بعنوان «لكل سينماه» يضم 34 مخرجًا من أنحاء العالم. ورغم قلة عدد أفلامه، فإنّها ترسم مسيرة متميزة، ومميزة، وتحمل أسلوبًا وبصمة واضحين.
يتسم هذا الأسلوب بعدة خصائص نحاول تلخيص أبرزها فيما يلي:
الذاتية
دائمًا ما يستمد موضوعات وصور أفلامه من تجاربه الشخصية «أو تجارب أناس يعرفهم»، وتبدو أعماله بشكل ما، كسيرة ذاتية، أو يوميات، كما في «سجل اختفاء». ورغم الخيال الجامح الذي تتسم به أحيانا كما في يد إلهية الذي يحتوي على صور سوريالية عجائبية، مثل تحول البطلة إلى فتاة نينجا تقهر المحتلين بيديها، أو قيام البطل بالقاء بذرة مشمش على دبابة إسرائيلية فتنفجر! فإنَّ هذه الصور تعبير سينمائي لمشاهد واقعية قام الخيال بتحريفها. وإمعانًا في الذاتية، أو كنوع من الاعتراف والأمانة بشأن هذه الذاتية، لا يستعين إيليا سليما بأنا بديل alter ego، كما يفعل كثير من المخرجين الذين يروون سيرتهم وتجاربهم الشخصية، ولكنه يُمثِّل نفسه، بنفسه، في معظم هذه الأفلام.
النظرة الموضوعية
قد يبدو غريبًا أن نقول إنَّ أعمال إيليا سليمان «ذاتية» و«موضوعية» في الوقت نفسه. هي ذاتية فيما يتعلق بالحديث عن حياة صانعها وتجاربه الشخصية، ولكن بالنسبة لوجهة النظر التي تروى بها، فهي تبدو دومًا «موضوعية»، حيث اللقطات غالبًا متوسطة وعامة، وهناك مسافة واضحة بين الكاميرا والناس الذين يجري تصويرهم. نادرًا ما يستخدم إيليا سليمان اللقطات المقربة جدًّا أو المقربة التي توحي بالذاتية والانفعالية. والممثلون يؤدون دومًا بنبرة هادئة، وغالبًا لا يكون هناك حوار أو مجرد عبارات مقتضبة.
الطاقة الشعرية
رغم الحديث عن الحياة اليومية والنظرة الموضوعية، فإن أعمال إيليا سليمان تحمل طاقة شعرية وجمالية هائلة. وغالبًا ما يحمل كل فيلم منها صورًا لا تنسى. في «كما في السماء»، مثلًا، هناك مشاهد لباريس تبدو خاوية ومقفرة، دقائق كاملة للشوارع والمعالم السياحية المعروفة، التي تعج بالبشر دومًا، نهارًا وليلًا، لكنها هنا خاوية تمامًا. من المدهش أن إيليا سليمان تخيل هذه الصور قبل عام تقريبًا من انتشار وباء «كوفيد 19 المستجد» وحالة الإغلاق التي حدثت في مدن العالم ومنها باريس!
بناء الفقرات المنفصلة
ليس هناك قصص درامية في أفلام إيليا سليمان، أو ما يطلق عليه البناء الخطي الذي يتكون من بداية ووسط ونهاية، ولكن كلها تتكون من «فقرات»، أو شذرات من الحياة اليومية، وقد أعيد صياغتها.
العنف.. دون عنف
رغم أن هذه الأفلام تتعرض لموضوع الاحتلال والفظائع التي يرتكبها، فإنَّها تخلو تمامًا من مشاهد العنف والدماء، والفلسطينيون الذين يظهرون فيها لا يبدون كمستضعفين مهانين، ولكن أقوياء يقاومون بطريقتهم التي قد تكون مجرد تجاهل وجود الاحتلال. في أحد مشاهد فيلم «الزمن الباقي» تطارد دبابة أحد الشباب، وهو يسير بشكل عادي يتحرك يمينًا ويسارًا متفاديًا إيّاها، ويتحدث في الهاتف! في مشهد آخر يقوم فلسطيني بإخراج القمامة من بيته في الصباح ليفاجأ بوجود دبابة أمام المنزل، يواصل طريقه نحو جامعة القمامة، بينما الدبابة توجه مدفعها نحوه وهو لا يكترث.
في المقابل يظهر جنود الاحتلال كحمقى، مرتبكين وخائفين، أو كمجرد لصوص يقومون بنهب محتويات بيت بالكامل، ويعثرون على جرامافون فيقومون بتشغيله ويرقصون كعصابة استولت على غنيمة.
الهوية كتيمة أساسية
التيمة، أو الفكرة الأساسية، التي تتواتر في أعمال إيليا سليمان هي ما يفعله الاحتلال بحياة الناس اليومية، الحصار والاختناق والملل، ورغم أنه لا يكاد يوجد أحداث «درامية» فيها، لكنه يملك قدرة فذة على صنع إيقاع متوتر ومشوق. إن السؤال الأساسي الذي يثيره الاحتلال ليس عنف الفعل والقهر والاستيلاء على أرض وممتلكات الفلسطينيين، ولكن الهُويَّة. الهُويّة كشيء لا يمكن القضاء عليه، أو التخلص منه، الهُوية كفعل مقاومة في حد ذاته، كمقاومة أقوى وأكثر إرعابًا للمحتل من حمل السلاح في مواجهته.
في أحد مشاهد «سجل اختفاء» يسأل سائح أوروبي أحدَ الجنود عن مكان أثري يريد زيارته. لا يعرف الجندي المكان، ولذلك يسأل رجلًا أعمى كان قد اعتقله للتو، فيقوم الرجل بوصف المكان بدقة للسائح. يحرص إيليا سليمان على إظهار هذا الجانب دائمًا: الهُوية هي الذاكرة والثقافة، وهي دائمًا أقوى من أي محاولة لمحو التاريخ.
كوميديا من نوع خاص
أما أبرز خصائص أسلوب إيليا سليمان فهي حسه الكوميدي الساخر، حيث تندرج معظم أعماله تحت ما يسمى بالكوميديا السوداء، ولكنها ليست كذلك بالضبط، وإنما تحمل قبسًا من مدرسة «العبث»، وتذكر نوعًا بأعمال باستر كيتون، والأهم أنها كوميديا نابعة من المضمون والمعنى الذي يتسلل عبرها، إذ تصل الشخصيات، وعالمها المحاصر، إلى أقسى درجات الإحباط واليأس، وهذا ما لا نراه على الشاشة، ثم تنتقل إلى مرحلة أسمى، حيث لا يملك المرء حيلة أمام مصيره المحتوم سوى السخرية، كفعل مقاومة أخير وناجع.