أصبحت أفلام الرعب مخيفة أكثر بكثير مما كانت عليه في الماضي. وإليك كيف يفعلون ذلك…
بام وينتروب
ترجمة: سومر جباوي
يُعدّ فيلم «نحتاج إلى التحدث عن كيفن We Need To Talk about Kevin» إنتاج 2011 ومن إخراج «لين رامساي Lynne Ramsay» بمثابة دراسة رائعة في مفهوم الخوف.
يستند الفيلم إلى رواية تحمل نفس الاسم للكاتب «ليونيل شرايفر Lionel Shriver»، والتي تدور أحداثها حول مراهق يقوم بسلسلة من جرائم القتل. يبدأ الفيلم بكابوس يلاحق والدته – تقوم بدورها الممثلة «تيلدا سوينتون Tilda Swinton»، حيث تجد نفسها غارقة في العصائر الحمراء خلال مهرجان لرمي الطماطم؛ وعندما تستفيق تجد منزلها وسيارتها مغطيين بطلاء أحمر. منذ البداية، يتسلل الخوف إلى كل كادر «صورة» في الفيلم. نحن أيضًا كمشاهدين نختبر ذلك الخوف: في الإضاءة الحمراء «بفعل استخدام الفلاتر» للحاضر والاضاءة البيضاء الباردة للماضي، في تعبيرات القلق على وجه الأم والنظرة الباردة والمنفصلة للابن. تتضح مدى تجاوزات كيفن بشكل تدريجي خلال الفيلم، لكن السرد الأساسي في هذا الفيلم هو عن رحلة الأم. لقد كنا داخل عقلها طوال الوقت، والتشويق يظهر عندما تتصادم العواطف الأساسية مثل الخوف مع مجموعة واسعة من ردود الفعل الأكثر تعقيدًا مثل: الذنب، الأمل، اليأس، وغيرها من المشاعر الأكثر دقة التي مرت عبر مصفاة العقل. هذا النوع الجديد من الأفلام، المعروف بـ «النيوروثريلر – أفلام الإثارة العصبية»، يخلق دورة من الخوف أو اللذة، وحمامًا دافئًا من الحزن، ليس من خلال السرد التقليدي، ولكن من خلال الصوت والصورة وتكنولوجيا الحواسب المتقدمة، كل ذلك يثير دوائر العقل العاطفية التقليدية.
ربما كان ألفريد هيتشكوك، سيد الإثارة، أول من قام بالتلاعب بالأفلام للوصول إلى مراكز العاطفة في الدماغ. سمى هيتشكوك السينما مختبره الخاص وقال إن كل فيلم هو تجربة في التفاعل بين التقنية السينمائية وتأثيرها على المشاهدين. كانت الإثارة والمفاجأة، الرغبة والحنين، الضحك والخوف، التعاطف والاشمئزاز هي المشاعر والعواطف التي نجح هيتشكوك في إثارتها في جمهوره. قادت طريقة هيتشكوك في السرد إضافة للمؤثرات البصرية جمهوره ببراعة من عاطفة إلى أخر.
خلال تصوير فيلم «شمالاً إلى الشمال الغربي» عام 1959، اعترف هيتشكوك حتى لكاتب السيناريو «إيرنست ليهمان Ernest Lehman» بأنه يحب الوصول إلى عواطف المشاهدين بشكل مباشر.
«الجمهور هو مثل آلة موسيقية عملاقة نعزف عليها. في لحظة نعزف هذه النغمة، ونحصل على هذا الرد، ثم نعزف على ذلك الوتر فيتفاعلون. وفي يوم من الأيام، لن نحتاج حتى إلى صنع فيلم ستتم زراعة أقطاب كهربائية في أدمغتهم، حيث سنضغط فقط على أزرار مختلفة وسيصدرون أصوات «أووه» و«آااه» وسنخيفهم ونجعلهم يضحكون. ألن يكون ذلك رائعا؟ هذا ما قاله هيتشكوك»، وفقًا للسيرة الذاتية لـ«دونالد سبوتو Donald Spoto» «الجانب المظلم من العبقرية» 1999.
في هذه الأيام، أصبح حلم هيتشكوك في الوصول المباشر إلى الدماغ واقعًا ملموسًا في العمليات العصبية مثل التحفيز العميق للدماغ «DBS» المُتَبَعَ في علاج مرضى متلازمة باركنسون. تهدف التجارب التي تستخدم نفس التكنولوجيا إلى علاج الاكتئاب عن طريق تحفيز المزيد من الدوائر العاطفية المبهجة. وبدورها، تُستخدم أفلام هيتشكوك من قبل علماء الأعصاب لدراسة العواطف في الدماغ. وفي حين أن السينما نفسها لم تتحول حرفيًا إلى آلة دماغية ذات أقطاب كهربائية متصلة بنسيجنا العصبي، إلا أن النماذج الجديدة للسينما تمكنت مع ذلك من التواصل بشكل مباشر مع الدماغ أكثر من الانسان نفسه. بقصد أو بدون قصد، لم يستفد صانعو الأفلام المعاصرون من المعارف المتزايدة حول آلية عمل الدماغ والتي وفرتها تجارب علم الأعصاب فحسب، بل حفزت أفلامهم أيضًا الحواس العصبية للعواطف دون تغيير آلية السرد.
في الأيام الأولى للسينما، كانت الحبكة هي أفضل طريقة لتحفيز الدماغ وإثارة استجابة عاطفية مشحونة داخله. هيتشكوك، على سبيل المثال، اعتبر أن الجمهور الذي يملك معرفة أكثر من الشخصيات على الشاشة سيكون أكثر انخراطًا وتورطًا في القصة من الناحية العاطفية. بالعبارة التالية: «دع الجمهور يلعب دور الله»، لخّص هيتشكوك قاعدته الرئيسية للتشويق.
تم توضيح هذه القاعدة السردية في الفيلم الوثائقي «هيتشكوك/تروفو Hitchcock/Truffaut» من إخراج «كينت جونز Kent Jones»، الذي أُنتِجَ في عام 2015، واستند إلى المقابلة الأسطورية التي استمرت أسبوعًا بين المخرجّين، والتي نُشرت في كتاب عام 1967. في حديثه مع زميله المخرج، أعطى هيتشكوك مثالًا بسيطًا لمشهد، حيث يُجري شخصان محادثة أثناء جلوسهما بهدوء إلى الطاولة. تخيل أننا نراهم وهم يتحدثون بسرور ثم فجأة تنفجر قنبلة. التأثير العاطفي على المشاهد هو تأثير المفاجأة.
الآن لنأخذ نفس السياق الدرامي لشخصين يتحدثان وهم جالسين إلى طاولة. ولكن هذه المرة رأى الجمهور لقطة قريبة إضافية لقنبلة مخبأة أسفل الطاولة، وعقارب ساعة تتحرك، مشيرة إلى لحظة الانفجار المرتقبة. بينما تتابع الشخصيات الاستمتاع بمحادثاتها غير مدركة لما يحدث حولها، فإن الجمهور، الآن، أصبح منخرطًا في العملية السردية، فهم يرغبون في تحذير الشخصيات لتتوقف عن الحديث وتبتعد عن المكان قبل فوات الأوان. هكذا يُنشط تأثير التشويق.
في جميع أفلام هيتشكوك، تقدم القصة سبلًا لاختبار العواطف المُثارة. خذ فيلم «النافذة الخلفية Rear Window» من إنتاج عام 1954، وهو فيلم داخل فيلم. البطل جيف، يلعب دوره الممثل «جيمس ستيوارت James Stewart» هو مصور فوتوغراف محجوز في شقته، بسبب كسر في ساقه. يقضي جيف أيامه متلصلصًا على جيرانه في الفناء الخلفي. يجلس هذا المُشاهد بلا حراك «غالبًا في الظلام» يراقب الآخرين وهم يتصرفون أمام عينيه. تشبه النوافذ المختلفة لجيرانه شاشات السينما الصغيرة، حيث تحكي كل منها قصتها الخاصة. عندما تختفي جارته فجأة من شقتها، يشتبه جيف أن زوجها قد قام بقتلها. تقوم صديقة جيف ليزا تلعب دورها الممثلة «جريس كيلي Grace Kelly» بالتحقيق وتدخل الشقة المعنية، مما يزيد من التوتر عندما نشاهد كمشاهدين مثل جيف، الجار المشتبه به وهو يعود إلى منزله. كجيف أيضًا، نريد أن نُحذر «ليزا» ولكننا لا نستطيع فعل أي شيء: نعض أظافرنا، نغطي أعيننا، نتحرك إلى طرف مقعدنا، ونخشى على حياتها.
لو كان البطل هو الشخص الذي تكون حياته في خطر، لكان الجمهور في حالة أكبر من التوتر.
تخلق عناصر القصة الأخرى التشويق أيضًا، مثل: إبطاء تقدم السرد من خلال تبادل تقطيع المشاهد مونتاجيًا فيما بينها؛ التركيز على التفاصيل مثل كوب من الحليب، أو مفتاح، أو ولاعة في «الميزانسين Mise-en-Scène» «الإعداد على الشاشة» بشكل تصبح هذه التفاصيل أشياء تثير الريبة في سبب وجودها ضمن السياق السردي، بل وتكتسب قيمة درامية، إضافة إلى الموسيقى الموجهة للمزاج؛ أو التركيز على تعابير وجه تتناقض مع المعنى الظاهري للمشهد الرومانسي، على سبيل المثال.
علاوة على ذلك، يمكن للشخصيات التي تحظى بتعاطف المشاهدين أن تعتمد على مشاعر القلق العاطفي المشترك بشكل أكبر عندما تجد هذه الشخصيات أنفسها في مواقف خطرة. في فيلم «هيتشكوك/تروفو»، يروي هيتشكوك مشهدًا مثيرًا في نهاية فيلمه الجاسوسي «المُخّرب Saboteur» إنتاج 1942. تدور أحداث القصة حول شاب يُتَّهَم زورًا بالتخريب في مصنع للذخائر. في نهاية الفيلم، يتصادم الشاب والمخرِّب الحقيقي، الذي تم تصويره طوال الوقت كشرير حقيقي، على قمة تمثال الحرية. يتعثر الشرير ويسقط فوق حافة الدرابزين. يستطيع بطلنا الإمساك بكم سترة عدوه ويحاول سحبه. يتم ابطاء هذا الفعل باستخدام التقطيع بين لقطات بعيدة تؤكد على ضخامة تمثال الحرية وتأثيرات السقوط من مثل هذا الارتفاع، ولقطات قريبة من كم السترة الذي بدأ يتمزق ببطء. حتى قبل أن تدرك الشخصيات مآل الأحداث، يتوقع المشاهدون سقوط الشرير في النهاية. وفي حين أن الموقف يبدو مشوقًا بكل تأكيد، إلا أن هيتشكوك شعر بأنه ارتكب خطًأ في هذا المشهد: لو كان البطل هو من كانت حياته على المحك، لكان الجمهور في حالة أكبر من التوتر.
باختصار، يمكن اعتبار فيلم هيتشكوك شكلًا من أشكال التحفيز المباشر للدماغ. أثبت عالم الأعصاب «أوري حسون Uri Hasson» وفريقه من معهد علم الأعصاب بجامعة برينستون من خلال تجربة أن فيلماً لـ«هيتشكوك» يستطيع السيطرة بفعالية على عقلك. قام العلماء بعرض فيلم «صوب..أنت ميت Bang! You’re dead»، وهو فيلم قصير أخرجه «هيتشكوك» لبرنامجه التلفزيوني «هيتشكوك يقدم Hitchcock Presents» أمام مجموعة من المشاركين في التجربة. في الفيلم، يجد صبي صغير مسدس عمه ويعتقد أنه لعبة بها ست رصاصات مزيفة. دون إدراك للخطر، يضع الصبي الرصاصات في المسدس ويبدأ في اللعب. يرفع السلاح نحو عدة أشخاص «بشكل غير مقصود» من حوله: صديقه، وأمه، وعمه، والخادمة. لا نعلم أبدًا ما إذا كان سيضغط على الزناد أو متى. وفي الوقت نفسه، تم توصيل الأشخاص الخاضعين للاختبار بأجهزة قياس النشاط الكهربائي عبر الجلد ووضعهم في ماسح التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي أثناء مشاهدة هذا الفيلم. لقد استجابوا بطرق متطابقة تقريبًا، موضحين أن مستويات التوتر ترتفع في كل خطوة يأخذنا فيه المخرج عبر القصة.
يعرف هيتشكوك كيف يتلاعب بعواطفنا، والسرد هو المفتاح لذلك. تؤدي المواقف الدرامية إلى فهم مشاعر الشخصيات التي تظهر على الشاشة والتفاعل معها. من الواضح أن أساليب التشويق الكلاسيكية لا تزال فعالة جدًا على الشاشة حتى يومنا هذا.
ولكن في العصر الرقمي، ومع الاكتشافات الجديدة في علم الأعصاب والتقنيات السينمائية الجديدة التي تتطور بشكل مواز، تبدو أن قواعد اللعبة قد تغيرت بالفعل. وربما يتجلى إدراك السينما لأهمية علم الأعصاب بشكل أفضل من خلال فيلم «قلبًا وقالبًا Inside out» من إنتاج بيكسار 2015. يستكشف فيلم الرسوم المتحركة هذا، الحياة العاطفية لـ«رايلي Riley»، فتاة تبلغ من العمر 11 عامًا تنتقل إلى مدينة جديدة، من منظور العواطف الأساسية التي تسيطر على رأسها. يصور الفيلم بشكل هزلي مغامرات الفرح والحزن والخوف والغضب والاشمئزاز. تلك المشاعر ليست مشاعر رايلي فحسب، ولكنها تظهر أيضًا بشكل شخصيات في الفيلم، وتساعد الصناع في إعطائنا جولة استكشافية داخل الدماغ. في البداية، الفرح هو العاطفة السائدة في حياة رايلي، ولكن تغيُّر المشهد يخلق مساحات أخرى لعواطف الحزن والخوف والغضب والاشمئزاز.
يجب أن يتعلم الفرح أن المشاعر الأخرى لها دورها الذي تلعبه في حياة متوازنة، وبسبب ذلك فإننا نشهد تشكُّل نظام أكثر تكاملًا، حيث يكون «للعواطف مشاعر» أيضًا. تكتشف شخصية الفرح أنها يمكن أن تكون حزينة، وأن الاشمئزاز والغضب يمكن أن يكونا مفيدين.
في حين أن فيلم «قلبًا وقالبًا» هو فيلم للأطفال ويتم تمثيل كل عاطفة كشخصية في الفيلم، إلا أنه يتعامل بذكاء مع المعرفة العلمية حول بنية الدماغ، وكيفية عمل الذاكرة والرؤية النفسية العصبية التي تشير إلى وجود فارق بين العواطف «عادة ما تعتبر غير شخصية، وهي آليات بقاء غريزية لدى الجميع» والمشاعر «عواطف أكثر تعقيدًا وشخصية، مرتبطة بالذكريات والقواعد الاجتماعية والقدرات الإدراكية، مثل العار والغيرة والذنب والشفقة وغيرها من ردود الفعل الأكثر تكاملًا تجاه الحياة».
تمت ترجمة هذا الفهم للدماغ العاطفي إلى نوع أكثر تعقيدًا وفاعلية من أنواع الفن السينمائي. في الوقت الحالي، يعمل صانعو الأفلام على توجيه نتائج الباحثين في علم الأعصاب مثل «ياك بانكسب Jaak Panksepp» من جامعة واشنطن الحكومية، الذي اكتشف العواطف الأساسية السبع: السعي، والغضب، والخوف، والشهوة، الاهتمام، والهلع / الحزن، واللعب، وجميعها بأحرف كبيرة لأنها عواطف تمتد عبر مجموعة الأنواع الثديية من الجرذان إلى البشر. وأظهر بانكسب بتجربة مشهورة أن الجرذان تستمتع بالتفاعل الاجتماعي عند تدليكها بيد إنسان. كما أظهرت تجارب بانكسب على الكلاب الباكية بأن الخوف له أشكال مختلفة، سواء كان خوفًا من الهجوم أو هلعًا بسبب الانفصال عن الأم وهو أسوأ أشكال الحزن.
قام صانعو الأفلام أيضًا بالاستفادة من مفاهيم عالم الأعصاب «أنتونيو داماسيو Antonio Damasio» من جامعة جنوب كاليفورنيا، الذي أظهر مدى عمق المشاعر المتجسدة، كيف يعمل «الشعور الغريزي» على مستوى الدماغ. يتحدث داماسيو في واحدة من أوراقه، عن مريضة تم علاجها من مرض باركنسون من خلال آلية تحفيز الدماغ العميق؛ بينما كان القطب الكهربائي يتحرك من مكان لآخر في دماغها في كل لحظة، اجتاح وجهها تعبير حزين، ثم شرعت في البكاء، وأخيرًا شعرت بالرغبة في الانتحار. يقوم الطبيب المعالج على الفور بإيقاف عملية تحفيز الدماغ؛ فيتوقف النحيب، وتختفي تعابير الوجه، وتعود المريضة إلى الوضع الطبيعي. إن الشعور النقي، من دون سرد، هو سمة إنسانية أيضًا.
أصبحت السينما الآن جزءًا من ثقافة المراقبة الرقمية الأوسع، التي تتوسطها الشاشات التي تحول كل شارع في المدينة إلى فناء يمكننا من خلاله التجسس على الآخرين.
هذه الرؤية هي التي قادت المخرج «لارس فون ترير Lars Von Trier»، الذي تجلت تجربته المظلمة مع الاكتئاب في فيلميه «المسيح الدجال Antichriss» إنتاج 2009 و«ميلانكوليا Melancholia» إنتاج 2011. يطلب فون ترير من مشاهديه أن ينسوا العالم الخارجي للقصة، وأن «ينظروا إلى الداخل». «ميلانكوليا» هو اسم كوكب على وشك الاصطدام بالأرض، مما سيؤدي إلى القضاء على كل أشكال الحياة عليها. تعبر الشخصيات الرئيسية في الفيلم عن المشاعر الأساسية فيما يتعلق بهذا الحدث الوشيك: تتفاعل جوستين تقوم بدورها الممثلة «كيرستن دونست Kristen Dunst» وشقيقتها كلير تقوم بدورها الممثلة «شارلوت جينسبورج Charlotte Gainsbourg» مع خطر نهاية العالم هذا بحزن اكتئابي «إلى درجة اللامبالاة الكاملة، في حالة جوستين» والخوف «لخسارة كل شيء، في حالة كلير».
ولكن الرؤية العلمية النفسية لعالم الأعصاب «داماسيو Damasio» تساعدنا على فهم أن فيلم «ميلانكوليا» يغمرنا في العاطفة بشكل مباشر، على المستوى الجسدي، قبل حدوث أي فهم على المستوى النفسي. إن التلقي الأولي الذي نمارسه كمشاهدين هو على مستوى الحزن النقي، شيء يمكننا أن نشعر به من خلال ألوان المشهد القاتمة، وفي الحركة البطيئة في بعض المشاهد، التي يبدو أنها فقدت كل طاقتها، وفي الحركة المتثاقلة لجوستين، التي بالكاد تستطيع المشي. قبل أن يُفسر أي حدث في القصة أي شيء، نشعر بالعواطف والصراع بين الحزن والخوف كما لو كنا داخل رأس فون ترير. لذلك يمكن اعتبار فيلم «ميلانكوليا» تعبيرًا عن المشاعر النقية والعاطفة النقية.
استفاد المخرجون المتمرسون من نتائج البحوث العلمية الحديثة في علم الأعصاب بطرق مذهلة. على أيدي أمهر المخرجين، اكتسب البُعد العاطفي في السينما المعاصرة استقلالية عن القصة نفسها. بدون تجسيد المشاعر بشكل حرفي، كما حدث في فيلم «قلبًا وقالبًا»، تستحضر الأفلام بشكل متزايد عالمًا شخصيًا، غالبًا ما يكون ملونًا ببعد عاطفي مباشر يتفوق في أهميته على السياق السردي.. على النقيض من أفلام هيتشكوك، حيث يعرف المشاهدون القصة، ويمكنهم توقع الخطوات التالية ويشعرون بالشخصيات، في أفلام الإثارة المعاصرة، لا يعرف المشاهد من المعطيات أكثر مما تعرفه الشخصيات، ويتم سحب المشاهد على الفور إلى العالم العاطفي الذاتي للأبطال. كمشاهدين، فإننا بالفعل نختبر العالم بشكل متزايد «من الداخل إلى الخارج» ولدينا إمكانية الوصول المباشر إلى دراما آليات العاطفة في الدماغ.
لقد أُخذنا في رحلة نفسية ستمنحنا قصة في نهاية الأمر. وبالتالي قد يكون من الممكن التحدث عن سينما الإثارة المعاصرة باعتبارها سينما «الإثارة العصبية».ولقد «جسد» فيلم الإثارة العصبية عاطفة الفيلم، تمامًا كما يجسد جسم الإنسان عاطفة العقل.
أفضل مثال على أفلام «الإثارة العصبية» المعاصرة هو فيلم «الطريق الأحمر Red Road» إنتاج 2006 للمخرجة «أندريا أرنولد Andrea Arnold». في طبيعة الفيلم المتلصلصة، يشبه هذا الفيلم إلى حد كبير فيلم «النافذة الخلفية Rear Window». تراقب مسؤولة الأمن جاكي تقوم بدورها «كيت ديكي Kate Dickie» مدينة غلاسكو من وراء شاشات الكاميرات أمامها، مثل «المتصلص» الذي يراقب الآخرين من مكان بعيد وآمن، آخذةً دورنا كمشاهدين. نظرًا لإشارته الصريحة إلى ثقافة المراقبة، يعتبر فيلم «الطريق الأحمر»، مثل فيلم «النافذة الخلفية» فيلمًا عن فيلم. أصبحت السينما، اليوم، جزءًا من الثقافة الأوسع للمراقبة الرقمية، تتوسطها العديد من الشاشات التي حوَّلت كل منزل وكل شارع في المدينة إلى حديقة خلفية يمكننا التجسس عبرها. في كل من فيلمي «الطريق الأحمر» و«النافذة الخلفية»، تتم مقاطعة إجراءات المراقبة للشخصيات الرئيسية، وهنا تصبح الاختلافات بين الإثارة الكلاسيكية والمعاصرة أكثر وضوحًا.
في فيلم «النافذة الخلفية» يشتبه جيف في لغز جريمة قتل ويبدأ في التحقيق، مبقيًا على مسافة أمان من هذا التحقيق إلى أن يصبح أكثر تورطًا عندما يرى حبيبته معرضة للخطر على الجانب الآخر من نافذته.. في فيلم «الطريق الأحمر»، يتوقف روتين جاكي اليومي في المراقبة مبكرًا عندما ترى على إحدى شاشاتها رجلًا يبدو أنها تعرفه، والذي يغمرها على أي حال بالعواطف. تتوسع عيناها. يتجمد جسدها. تقوم بتكبير وجهه محاولةً رؤيته بوضوح أكبر.
مثقلة بالمشاعر، تترك جاكي محطة العمل ومن تلك اللحظة يأخذنا فيلم «الطريق الأحمر» في رحلة عبر عقل جاكي العاطفي. عندما ترى الرجل لأول مرة على شاشتها، نشعر كمتفرجين بالتوتر في جسدها بشكل عميق، ونشعر في الوقت نفسه بالخوف والاشمئزاز والغضب وربما الشهوة في آن واحد. يتم التعبير عن هذا الغموض الكثيف في العنصر البصري دون أن يتم بعد إضافة معنى سردي، ثم تبدأ تلك المشاعر بالتحول تدريجيًا ولكن بثبات إلى مشاعر أكثر وعيًا كالانتقام والشعور بالذنب والمغفرة والتكفير. يبدو هذا الفيلم قويًا لأنه يلعب على مستويات متعددة، ينقلنا بين العواطف والمشاعر، في حين يملأ السرد بمكانه في التحليل النهائي، عندما يكون الشعور قد تم تأسيسه بالفعل منذ فترة طويلة وتشكل بشكل واضح.
ولكن الفارق بين فيلم الإثارة الكلاسيكي وفيلم «الإثارة العصبي» لا يكمن ببساطة في الفرق بين الحبكة التي يحركها السرد والحبكة التي تحركها الشخصية. ليس من الضروري، وفي كثير من الأحيان ليس من الممكن، التعرف على الشخصية أو التعامل معها في بداية فيلم الإثارة العصبية على الإطلاق. في السينما المعاصرة، كثيرًا ما نُحرم من الحصول على لقطة تأسيسية أو مشاهد تمهيدية تضع الشخصية في سياقها السردي. عندما نكون في وسط موقف مربك، نتواصل أولًا على المستوى البدائي المباشر، والذي يتم التعبير عنه من خلال قيام التصوير السينمائي بمهمة العقل العاطفي للمشاهدين: اللقطات القريبة والصور السينمائية والألوان والأصوات يمكن أن يكون لها تأثير مباشر دون أن تكون مرتبطة سواءاً بالقصة أو الشخصية.. آفلام «الإثارة النفسية» قد «جسَّدت» العاطفة في الفيلم، تمامًا كما يجسد الجسم البشري عاطفة العقل.
يتعلق الفرق الأساسي بين فيلم الإثارة التقليدي وفيلم «الإثارة العصبية» الحديث بالمنظور بين الكاميرا والشاشة. في فيلم «النافذة الخلفية» يُمثّل «جيف Jeff» المشاهد الكلاسيكي، ويبقى معظم الوقت في الوضع الآمن للمتلصص الذي يراقب الآخرين من مسافة بعيدة. إنه يشرف على الموقف، ويعرف متى يكون هناك خطر، ويشعر بالغضب «كما المشاهدين» لأنه لا يستطيع تحذير حبيبته عندما تكون في خطر على الجهة الأخرى من عدسة الكاميرا. فقط في نهاية الفيلم، عندما ينظر الجار من نافذته الخلفية ويرى من يراقبه، يصبح موقف «جيف» المتلصص على المحك. ولكن هذا أيضًا يختتم القصة لأنه يتم القبض على القاتل.
من ناحية أخرى، في فيلم «الطريق الأحمر»، تترك جاكي الأمان الذي كانت تحظى به في محطة عملها متعددة الشاشات وتنتقل إلى الجانب الآخر من الكاميرات. تغيير موقعها بين الرصد وكونها مرصودة، تختبر جاكي العواطف والمشاعر المعقدة والمربكة لثقافة المراقبة، وربما ثقافة وسائط الإعلام المعاصرة بشكل عام. جاكي ليست مجرد متلصلصة تختلس النظر إلى حياة الآخرين ولكنها كشخصية جمالية جديدة، تستكشف العلاقة المعقدة والعاطفية التي تربطنا بكاميراتنا وشاشاتنا.
إن أفلام «الإثارة العصبية» المعاصرة تجعلنا على اتصال مباشر أكبر بالعمليات العاطفية في أدمغتنا التي تربطنا بالعالم وبالأشخاص الآخرين. يبدو الأمر كما لو أننا، مع شخصيات مثل «جاكي»، نسقط في حفرة الأرانب في أرض العجائب العصبية ، بينما تقودنا «أليس المستشعرة» خلال مغامرات ديناميكية ومربكة من العواطف والمشاعر على الشاشة.