رامي عبدالرازق
تقع قصة «الراقصة والسياسي» في نحو 9 صفحات، وتلتزم كلاسيكيًّا بالبناء التقليدي القائم على وحدة الزمان والمكان والموضوع، فالمكان هو مقهى الأنيون بمنطقة وسط البلد في القاهرة، والزمان أقل من ساعة، وهي التي تلتقي فيها الراقصة دلال المصرية بالسياسي عبد الحميد رأفت بشكل مفاجئ، من أجل أن تتحدث معه في أمر هام، والموضوع الذي هو هذا الأمر المهم؛ لا يعدو أكثر من كونه عرضًا مغريًا من قبلها لافتتاح مطعم للوجبات الساخنة «الكلاب الساخنة» كما تطلق عليها، وهي الترجمة الحرفية للهوت دوج في بداية عصر الانفتاح وتغير اللون الاقتصادي للمجتمع المصري، عقب حرب أكتوبر واندلاق الرأسمالية على رأس الشعب.
ترغب دلال في افتتاح المطعم باسمها ولكن عبر شراكة نصف معلنة مع السياسي البارز من أجل ضمان الحصانة الاقتصادية والمنافسة «غير المشروعة» مع الآخرين، ممن يبحثون عن شركاء متنفذين مثل السياسي.
وعبر حوار تراشقي بين الاثنين؛ تعري الراقصةُ السياسيَّ معنويًّا بشكل فاضح، للدرجة التي لا يستطيع معها سوى أن يستجيب لها في النهاية، خاصة مع دخول سياسي آخر أكثر بروزًا ونفوذًا منه، واكتشافه أن الراقصة لديها من الصلات ما يمكن أن يجعلها تتجاهله وتقفز لمن هو أعلى مكانة وسلطة.
الجملة/المفتاح
على لسان الراقصة في تراشقها الحواري مع السياسي تقول له: «أنا أعبر عن نفسي بهزات جسدي وأنت تعبر عن نفسك بهزات لسانك»، وهي الجملة التي أسرجت أحصنة الخيال لدى الكاتب وحيد حامد، وجعلته ينطلق في إعادة بناء القصة بما يليق بتكريس هذا المنطق الكاشف لطبيعة العمل السياسي في بلد مثل مصر، أو ربما في كل البلاد التي تحتوي على شكل سياسي براق لكنه هش وخامل ومهترئ من الداخل، حتى إن الراقصة تعاير السياسي قائلة: «كلانا هدفه إسعاد الجماهير بل إن الجماهير تصدق الراقصات أكثر من الساسة، لأن ما تقدمه الراقصة لا يحتمل التضليل»!
هنا يمكن أن نؤكد أنَّ ما يعرف بتخريب النص أو هدمه ليس تخريبًا بالمعنى السلبي، ولا الهدم الشرير، بل هو الاستغناء عن كل ما يمكن استبداله وتحويره وتحويله من مكتوب إلى بصري؛ لصالح عنصر واحد أساسي هو الذي تنبني عليه كامل عملية الاقتباس في جوهرها، وهو فرضية النص الأدبي أو نواته التي يرى السيناريست أنها أكثر إشعاعًا وأهمية من أي إلكترون يدور حولها.
ما فعله وحيد أن قام بتغيير اسم الراقصة إلى سونيا سليم على اعتبار أنه اسم يليق براقصة مشهورة، ويبدو مستعارًا أو غير حقيقي، لكنه فني وله جرس محبب على الأذن، وقام بتغيير اسم السياسي إلى جمال مدكور، وراح يصيغ السيناريو بناء على معطيات النص الأصلية فيما يخص الشخصيات؛ فالراقصة في حوارها التراشقي مع السياسي تبدو شخصيتها قوية، واثقة من نفسها، لديها يقين بقاعدتها الجماهيرية، وأهمية ما تقدمه من فن وترفيه يجلب لها محبة الناس من كل الطبقات –في المشهد الأول من الفيلم نرى أحد المعجبين الذي يعبر الشارع أمام سيارتها الفاخرة في إشارة المرور ويحييها بلطف شديد، ومجموعة من الأطفال يشيرون له بحب- ثم إنها شخصية مرموقة اجتماعيًّا لما لديها من صلات طيبة، وعلاقات قوية بكل الأطياف، بداية من الموظفين الصغار وصولًا إلى المراكز العليا، كما أنها ترقص في الأفلام السينمائية والحفلات الخاصة والملاهي الليلية الكبرى فلديها إذن متانة مالية لا يستهان بها، وهي امرأة جميلة تثق بجمالها بصورة مطلقة «في الفيلم نراها تحافظ على رشاقة جسمها الذي هو رأس مالها بالتدريب على يد مدرب محترف».
كل هذه الأبعاد الخاصة بالشخصية تحصل عليها حامد من طبيعة الحوار الذي جاء على لسانها في القصة القصيرة، وهو درس عملي في كيفية تشريح النصوص للحصول على المعلومات والتفاصيل اللازمة لكتابة السيناريو، فليس معنى أن النص قصير أنه لا يحتوي على مخزون كافٍ من الحكي، ولكن أين يمكن العثور عليه فذلك يرجع إلى مهارة السيناريست.
ولا ننسَ أن الراقصة اقتحمت المقهى «الرجالي» على السياسي، ومن ثم هي التي أخذت زمام المبادرة مهاجمة إياه في المكان الذي لا يتصور أن يلتقي بها فيه! حيث من غير المعتاد كما تذكر القصة أن يأتي أهل الفن إلى هذا المقهى خاصة، ولا النساء بصورة عامة. وهو نفس ما تفعله سونيا في الفيلم بشكل أكثر قوة، حيث تقتحم على السياسي دائرة نفوذه ومكتبه السلطوي من أجل أن تستعين به لكي يتوسط لها في الشأن الذي تريده.
أما ما هو هذا الشأن فتلك من الإضافات الماكرة والماهرة لحامد، ففي القصة تريد الراقصة أن تصبح واحدة من سيدات أعمال فترة الانفتاح الاقتصادي بينما في الفيلم ترغب في أن تبني دارًا للأيتام لأنه لم يتسنَّ لها أن تنجب طفلًا، وتريد بما قدر لها من مالٍ وغنًى أن تُسهم في تخفيف معاناة الصغار و«تصنع شيئًا ما لآخرتها»، وهو ما يُقابَل بالطبع برفض شديد من موظف الشئون الاجتماعية البيروقراطي المحافظ، عندما يعلم أنها راقصة. ومن هنا تجد نفسها مضطرة للجوء إلى السياسي من أجل أن يساعدها.
هنا يبدو الطلب الذي تلجأ فيها للسياسي أكثر حساسية وقوة وتأثيرًا من تفصيلة مطعم الوجبات الساخنة، فمسألة أن يتم رفض طلب راقصة لفتح دار أيتام هي شرارة يمكن أن تمسك ألسنة اللهب المنبعثة منها في قضايا كثيرة تخص المجتمع! وعلى رأسها بالطبع قضايا الازدواجية والزيف والادعاء، وهي الوجوه الأصيلة للجانب الفكري والسياسي من القصة الأصلية. وهو ما استفاد منه حامد أيضًا في بنائه لشخصية السياسي جمال مدكور.
الحفلة
السياسي كما نراه من خلال حواره مع الراقصة في المقهى هو شخص زائف، مُدَّعٍ، يلقي بالشعارات من أجل الاستهلاك اللحظي ليس أكثر، ويملك شعرَ قطة يقشعر وينكمش خوفًا من أي كلمة حق تطال قشرته السياسية البراقة، فليس لديه سوى سمعته؛ مثل كل السياسيين الذين يشتغلون بالكثير من الكلام والقليل من الفعل، أو على حد قول سونيا سليم في الفيلم «أنت بتلعب لسانك وتخطب في الناس»، وهي الجملة المفتاح التي أشرنا إليها فيما يخص دخول حامد إلى نواة النص الأصلي.
طيب إذا كانت الراقصة قد اقتحمت على السياسي المقهى في القصة، وخوفًا من أي إشارة أو شبه فضيحة تمس كيانه اللامع اضطر إلى أن يجاريها، إلى أن رضخ في النهاية! فماذا تملك سونيا سليم لجمال مدكور في الفيلم وليس هناك مقهًى ولا حاضرون؟!
في القصة إشارة إلى الحفلات التي ترقص فيها دلال «ثم لا تنسَ أن زبائن فراشي لا يختلفون، أصدقاؤنا العرب، وأصدقاؤنا من الدول العالمية الصديقة». من هذه التفصيلة التي تبدو عابرة أو تعكس كونها شخصية تتباهى بما تفعله مهما كان، قام حامد بتأسيس جذور العلاقة بين سونيا وجمال في شبابهما المبكر، عندما كان لا يزال مجرد لاعب صاعد في كواليس السياسة، وهي راقصة شابة، قام باستدعائها من أجل حفلة خاصة لأحد المسؤولين العرب –دون تحديد-، ثم قضى معها ليلة في الفراش! لكنه في الصباح اختفى تاركًا أثرًا واحدًا وهو سرقته لمبلغ مالي من المقابل الذي تقاضته كأجر عن الحفلة.
هذه الليلة نفسها هي التي تتحول إلى ورقة الضغط الأساسية التي تستغلها راقصة الفيلم ضد السياسي، وهي ورقة حساسة وشديدة التأثير على حاضره ومستقبله السلطوي، ومن ثم تتفجر الأزمة ويندلع الصراع مشتعلًا بين الاثنين بشكل متصاعد وزخم.
شفيق ترتر
في نهاية اللقاء بين الراقصة والسياسي في المقهى، وبعد أن تنجح في الضغط عليه من أجل الموافقة على الشراكة في مطعم «الكلاب الساخنة»، تقول له إنها سوف ترسل له زكريا الطبال بالأوراق، وزكريا الطبال مجرد اسم عابر يوحي بأن الراقصة تعتمد عليه في المشاوير أو ما شابه، ولكن زكريا الطبال يتحول عبر سيناريو وحيد حامد إلى شخصية مهمة من لحم ودم تدعى شفيق ترتر -الذي قدم دوره بتمكن شديد فاروق فلوكس- وشفيق ترتر بالمصطلح الشعبي المبتذل «صبي عالمة» ولكن في هيئة أكثر هندامًا وشياكةً.
ترتر كما بناه حامد هو مخنث كما يبدو من أسلوبه الناعم الزلق في الحديث، مدمن مخدرات كما تصفه سونيا نفسها للموظف حين يرفض أن يمنحها تصريحًا لدار الأيتام، تقول له هل توافق على أستاذ شفيق ثم تعدد مساوئه التي لا يعلم عنها أحد شيئًا كمثال على أن البيروقراطية والفساد تقبلان الزيف والتدليس ولا تتصالحان مع الصراحة والعلانية.
ولكن رغم كونه مدمنًا ومخنثًا فإنه مخلص جدًّا وأخلاقي في بعض الأحيان، ويبدو مثل قائد ميداني في صراع الراقصة والسياسي، كما أنه خفيف الظل ولديه حضور محبب وأسلوب جذاب في وصف وتلخيص الأمور.
يمثل شفيق ترتر الصفي الدرامي الخاص بسونيا سليم، الذي تتحدث معه كي تعبر عن أفكارها ومشاعرها وخططها للانتصار في معركتها ضد السياسي، والذي يشن عليها حربًا تبدأ بالمهادنة وتنتهي باستدعاء بوليس الآداب لها لتلفيق تهمة فعل فاضح.
وفي مقابل ترتر لدينا شخصية برهام «مصطفى متولي» وهو صفي جمال مدكور وذراعه اليمنى، وهي شخصية أثيرة لدى حامد، حتى أننا يمكن أن نعتبر أن العلاقة ما بين السياسي جمال مدكور ومدير مكتبه برهام، هي أصل العلاقة ما بين الوزير رأفت رستم وسكرتيره عطية في فيلم الثنائي حامد/ سيف معالي الوزير 2002.
الكرة الكريستال
عندما يخرج السياسي قليلًا ليجيب على الهاتف في المقهى، ويعود مرة أخرى، يُفاجأ بأن الراقصة تجلس مع الأستاذ عبد الله سكرتير الحزب وهو مسؤول سلطوي أعلى مكانة من السياسي نفسه ويجد أن الراقصة تملك على ما يبدو علاقة وطيدة بأستاذ عبد الله، وهو ما يشجعه على أن يوافق على مشروع الشراكة بينهما.
هكذا تنتهي القصة، بينما في الفيلم تصل ذروة المعركة بين سونيا وجمال مدكور إلى حد أنها تعلن عن كتابة مذكراتها، ومن ثم يرتعش كل مسؤول وسياسي ورجل أعمال كان على علاقة بها في وقت ما، وهي علاقات لو انكشفت أو أعلنت لفقد الكثير منهم ليس فقط احترام الناس لهم ولكن ربما مستقبلهم المهني والسياسي كله.
هذا الانفجار الأخير يستدعي تدخل واحد من المسؤولين الكبار، الذي لا يشير الفيلم إلى طبيعة منصبه، ولكنه يشير إلى العلاقة بينه وبين سونيا من خلال موتيفة صغيرة جدًّا، وهي كرة كريستالية براقة يحاول السياسي الحصول عليها من شقة سونيا عند زيارتها وترفض هي أن تمنحها له، ولكنه يفاجأ في النهاية بأن الكرة موجودة على مكتب المسؤول الكبير! ويترك حامد بمهارة ومكر شديدين السؤال مفتوحًا! فهل هي الكرة نفسها التي كانت في شقة سونيا؟! ومعنى هذا أنها أصبحت على علاقة بالمسؤول الذي يوصي السياسي أن يمنحها تصريحًا بدار الأيتام كي يسكتها ويتقي شرها، أم أنها كرة مشابهة؟! ولكن السياسي لأن على رأسه (بطحة) تصور أنها الكرة نفسها، خصوصًا مع توصية المسؤول بأن يتم معالجة المشكلة مع الراقصة «إيّاها».
ينتهي الفيلم كما القصة بانتصار الراقصة لأنها أكثر صدقًا وأقل ادعاءً وزيفًا وفسادًا، وهو انتصار بطعم الهزيمة ليس للسياسي، ولكن للمجتمع الذي تهشمت فيه معاني العمل السياسي، وتعفن محتواه القيمي على كل المستويات، حتى أن راقصة صناعتها الترفيه غير الجاد يمكن أن تقهر مسؤولًا بضاعته مصالح الجماهير وثقة الشعب، ولكن أي مصالح وأي ثقة؟!