د. وليد سيف
ما زال المخرج الأميركي العجوز مارتن سكورسيزي الذي تجاوز الثمانين عامًا يواصل أعماله السينمائية حيث يعرض له عالميًّا أحدث أفلامه «قتلة زهرة القمر- Killers of the Flower Moon»، قد يتساءل البعض: هل ما زال في جعبته المزيد بعد هذا العمر وبعدما حقق من روائع أصبحت من كلاسيكيات السينما العالمية مثل سائق التاكسي والثور الهائج وكازينو وعصابات نيويورك والمغادرون وذئب وولستريت، وبعد ما ناله من كبرى الجوائز في الأوسكار والجولدن جلوب والبافتا وغيرها كثير؟! كتب سكورسيزي سيناريو الفيلم بمشاركة إريك روس عن رواية الكاتب الصحفي ديفيد جران الواقعية بالعنوان نفسه، التي حققت أعلى مبيعات في عام صدورها 2017، تدور أحداث الفيلم حول سلسلة جرائم قتل غامضة تقع في شمال شرق ولاية أوكلاهاما خلال عشرينيات القرن الماضي، وضحاياها كلهم من قبيلة الأوساج أصحاب الأرض الأصليين، فتبدأ محاولات فك غموض تلك الجرائم والكشف عن القتلة وأسباب القتل من خلال فريق التحقيقات الفيدرالي.
لكن الأحداث سوف تأخذك لاحقًا للتركيز على شخصية المغامر أرنست بيركهارت التي يلعبها ليوناردو ديكابريو، وقصة حبه وزواجه من ابنة قبيلة الأوساج مولي كايل -ليلي جلادستون، فهل ابتعدنا كثيرًا عن الموضوع؟ بالتأكيد لا، فسكورسيزي يعرف جيدًا كيف يقبض على موضوعه؛ فزواج أرنست جاء بتوجيه من عمه ويليام هيل- روبرت دي نيرو.
فعلى جانب آخر يوثق الفيلم للحقيقة التاريخية التي وقعت في عام 1894 حين تم اكتشاف البترول في أرض تابعة لشعب أوساج، فأصبح أبناء هذا الشعب البدائيون البسطاء يمتلكون ثروات ضخمة، فهل سيتركهم الوافدون البيض الجدد يتمتعون بهذه الثروة؟! بالتأكيد لا، فقد قتلوا العشرات من أبناء هذا الشعب الطيب، بعد أن تزوجوا بناتهم ليرثوا ممتلكاتهن من الأراضي التي ترقد على هذه الثروة، مستغلين قانون الوصاية الذي فرضه عليهم البيض، حيث يلزم أبناء الأوساج بتوقيع رجل أبيض للاستفادة من ثرواتهم.
ينسج السيناريو أحداثه بمهارة، ولا يخلو مشهد واحد من تكشف جديد أو حدث أو مفاجأة غير متوقعة، وهو ينتقل من ذروة إلى ذروة أعلى حتى يصل بك إلى نهاية مدهشة وغير متوقعة تتفوق على كل الذُّرى التي سبقتها، وبالتضافر مع مونتاج بارع لثيلما شونميكر، ينتقل بك من لقطة إلى أخرى، كما لو كانت انتقالة حتمية لا غنى عنها، كما يضيء لك الكثير وينير لك الطريق لتتوصل إلى المعنى الكامن بلغة سينمائية متقدمة ورشيقة، وهو ما يجعلك تلهث وراء الأحداث دون لحظة ملل واحدة أو هبوط في الإيقاع طوال ثلاث ساعات كاملة هي مدة عرض الفيلم، كما لو كان سكورسيزي يتحدّى ذاته وقدراته التي تتجاوز كل الحدود.
سبق لسكورسيزي أن قدم دينيرو وديكابريو كثيرًا في أعمال تعد من أفضل أدوارهم، وإن كان دينيرو هنا يقدم شخصية تقليدية أحادية البعد تمثل الشر المطلق بأداء هادئ ورصين، فإننا نرى ديكابريو في شخصية في غاية الصعوبة والتعقيد تمتزج فيها الجوانب الشريرة بالطيبة، وتتمكن بأداء ديكابريو من أن تخدع المشاهد كما تخدع الشخصيات المحيطة في الفيلم، ويواصل فيها ديكابريو التأكيد على قدراته كممثل بعيدًا عن جاذبيته كنجم. فمن خلال المظهر والماكياج بل حتى شكل الأسنان المشوه المصطنع يتنافى مظهره مع الوجه الوسيم الذي اعتاده الجمهور، كما أنه يعبر بأدائه الصوتي والحركي بتحوُّل تدريجي مدروس حتى يصبح صورة بالكربون من عمه، ليس في المظهر والشكل ولكن في الروح والإحساس.
وعلى الرغم من الأداء المتميز جدًّا لديكابريو فإن بطلة الفيلم ليلى جلادستون في دور حبيبته وزوجته مولي قد أثبتت حضورًا في غاية القوة، وتماهت مع الشخصية إلى درجة لا توصف كأنها ابنة تلك الأرض، وكانت معبرة بالفعل عن قوة الخير التي تسعى لاستنهاض الجوانب الطيبة في حبيبها الذي كان من المنطقي جدًّا أن يقع في حبها حتى لو فشل في إنقاذها، وهي تعبر على غرار ديكابريو عن التطور الذي تمر به الشخصية عبر نظراتها ولفتاتها ولغة الجسد، كما تعبر عن تغلغل الحب السام في قلبها من خلال أدائها الصامت المعبر، وحيث تنتشر هذه السموم في روحها كما تنهش في جسدها بالفعل.
يحرص سكورسيزي على المزج بدقة ومهارة بين ما هو مأساوي ومثير للأحزان والشفقة، كما نرى في مشهد احتضار رجل من الأوساج مسمومًا. وهو من ناحية أخرى يعرض لنا ببلاغة ورومانسية قصة الحب بين أرنست ومولي، وهو بهذا التنوع الأسلوبي يعكس لنا هذا التناقض الرهيب في داخل الإنسان بين دوافعه ورغباته المادية الجشعة الفتاكة، وبين ما يمتلكه من قدرة خيرة على الحب، وهذا جوهر القيمة الحقيقية في الفيلم، كأنه يشرح لنا الصراع الداخلي لدى الإنسان لنظل في انتصار أيٍّ منهما سينتصر مولي الطيب المحب، أم ذلك الشخص الخاضع لعائلة أو تنظيم أقرب للمافيا التي تفعل أي شيء من أجل انتزاع الأرض والمال.
على الرغم من تغلغل الفيلم داخل النفس البشرية عبر سلوك الشخصيات وحواراتها وأداء الممثلين، فإنّه لا يغفل أبدًا هذه النظرة الإنسانية تجاه ضحايا هذه الدوافع الإجرامية، فحكايات القتلى وصورهم لا تغيب، كما أن الفيلم يبدأ بطقوس الأوساج والموسيقى بوجه عام لروبي روبرتسون أسهمت في صنع الأجواء الملائمة للبيئة بالتضافر مع الأماكن والديكورات التي تعبر عنهم وتؤكد أنهم شعب له حضارته.
بل إن الفيلم يؤكد في حواره أن في قتلهم قتلًا للإنسانية بل قتل من قتلهم، وهو ما تقوله مولي لأرنست بالتحديد، تمامًا كما عبر شكسبير في رائعته ماكبث عن هذا الأثر المميت الذى يتغلغل في نفس القاتل ومن ورائه من قتله، فيجعله هو نفسه ضحية لجرائمه.
لا يمكن أن ينتهي هذا المقال دون الإشادة بأداء جيسي بليمونز في دور المحقق توم وايت، الذي استطاع بأسلوبه الهادئ المنضبط من أن يخرج بالشخصية من إطارها التقليدي، وأن يبرز الجهد الذهني للشخصية من أجل الوصول إلى الحقيقة رغم ما تواجهه من ضغوط وما يحيط بها من تشوش.
يؤكد سكورسيزي من خلال فيلم قتلة زهرة القمر أنه ما زال شابًّا رغم سنين العمر الطويل، وما زال يمتلك القدرة على أن يقدم السينما التي تنتصر للفن وللفكر الحر الذي يسعى لتخليص الإنسان من مكامن الشر في النفوس الضعيفة، وأن يضيء الواقع بصور من التاريخ، التي تستحق التوقف أمامها وتأمّلها من أجل مستقبل الإنسانية.
يكشف هذا الفيلم سينمائيًّا وعبر فنان عالمي كبير عن المزيد من الجرائم التي ارتكبها الأمريكان ضد سكان الأرض الأصليين، وهو يأتي في هذا التوقيت ليفضح لنا هذه الرغبة المادية الجشعة، التي استشرت في قلوب بشر بلا ضمير، ارتكبوا جرائمهم بقلب بارد ودون أن يغمض لهم جفن، لكنهم بالتأكيد لن ينجوا من الحساب ولو بعد حين.