هدى جعفر
ليل، ومدينة، وسيارة، ثلاثي يقترح دراميّته بلا مجهود؛ إذ تقول المدن في ليلها كل شيء، خصوصًا لمن يملك أذنًا مُرهقة وسيارة لا تتوقف. أمَّا ملصق فيلم «مندوب الليل»، فيقول إنّ هناك رجلًا باللباس التقليدي «الثوب والشماغ والعقال»، وبعينين حمراوين يحدّق فيمن يراه، وقد كُتب في الأسفل اسم الفيلم باللون الأخضر، والأخضر يعني العطاء والازدهار، لكنه قد يحيلنا إلى أشياء أخرى، متضادة ومتنافرة أحيانًا؛ إشارة السماح بالمرور، وموائد القمار، والبلغم، والمستنقعات، والكدمات التي قاربت على الشفاء، وكتاب معمر القذافي، كما يعني مصطلح «عين خضراء» بالإنجليزية الحقد والحسد.
ما زال «مندوب الليل» يُعرض في دور السينما بنجاحٍ لافت يرفع علامتي النصر بجوار مخرجه الشاب علي الكلثمي، الذي لا يترك لنا الكثير من الوقت لنخمّن الموضوع، فيضعنا منذ البداية في المقطورة الصحيحة، بتعريفٍ على الشاشة لمعنيي «مندوب»: الأول هو الشخص الذي يقوم بإيصال الأشياء، والثاني هو من يُرثى له ويُبكى عليه، ويظل المعنى الثالث في بطن المخرج «أو الشاعر لا فرق» حتى نهاية الفيلم.
البطل «ذو الشماغ»
فهد القضعاني «محمد الدوخي»، يعمل مندوب توصيل في الفترة الليلية في الرياض. فهد شاب فقير، من السهل تمييز معاناته، فهو غير متزوج وغير مرتبط، ومسؤول عن والده المريض «محمد الطويان»، وأخت مطلقة مع طفلتها «هاجر الشمري، أماني السامي»، وقد وصل إلى عمرٍ من الصعب فيه إتقان الأمل والبدء من جديد. رجل هشّ على أكثر من طريقة، وأول ما يضغط على هذه الهشاشة، قرار إداري متعسّف يخيره، بقسوة ملحوظة، بين الفصل أو الاستقالة. ويستمر ليل الرياض في استدراجه برويّةٍ حتى يصل الفيلم إلى نهايته حيث النجاة لحظية و«زي قلّتها». يبدأ الفيلم من مدينة الملاهي، ومدينة الملاهي تحمل تفسيراتٍ متعددة، تشمل التيه، والضحكة التي يخالطها البكاء، والأدرينالين الذي يرتفع لأسباب محببة وغير محببة، وقد تعني أيضًا المزاح الذي ينتهي بكارثة، خصوصًا عندما يتلقى البطل المكالمة الشؤم وخلفه تظهر ساعة ضاحكة، وقد تجمّد عقرب الوقت عليها، والوقت يداهم ويلدغ ويقتل كما يفعل أي عقرب.
المندوب ومدينته
تعاملت السينما مع المدن كثيرًا، وكلما كانت زاوية التعاطي جديدة وغير مطروقة، كان الأثر أعذب وأقوى ويختم عميقًا على الفور. فالعاصمة الفرنسية في «منتصف الليل في باريس» لوودي آلِن، تختلف عن باريس «400 ضربة» لفرانسوا تروفو، والقاهرة في «القاهرة 30» ليست هي القاهرة في «ليل/ خارجي». كل مخرج يعذّب مدينته بطريقته المُثلى، «مندوب الليل» خرج من مخيلة تعرف الرياض جيدًّا، مهووسة بها ربّما، ليس على طريقة مديري التسويق الذين يرون الجمال فوق القشرة مباشرة، أي عند الطرق المعبدة، والمباني الشاهقة، وناطحات الإسمنت، بل ذلك الخيال الذي يُصرّح بالضمني، ويحتفي بالنقائص وبالقبح الجميل.
في «مندوب الليل» يلتحم الزمان والمكان فيصيران شيئًا واحدًا، يلاحق البطل بمطارق ومجسّات لاختبار صلابته أو عدمها. يخنق الكلثمي الرياض بليلها، ويُظهرها متحفّزة، وصامتة، ولئيمة، وتُحسن وضع الفخاخ لأبطالها، عزز ذلك موسيقى بديعة «مايك وفوبيان كورتزار، وموسيقى النهاية لظافر يوسف»، وكاميرا متلصصة و«فتّانة» «مدير التصوير المصري أحمد طاحون»، ومنحتنا الشعور بالخطر، تنوعت زوايا التصوير حسب المشهد، وأرتنا الرياض بعيني فهد المحمرتين. فهناك، على سبيل المثال، الزوايا القريبة التي توضح ردود الفعل، والمنخفضة التي أظهرت بنايات الرياض كغيلان إسمنتية تُشعر البطل بالضآلة يومًا بعد يوم.
ليل لا ينتهي
لا يشذ «مندوب الليل» عن الاتجاه الذي يتعاطى مع الليل باعتباره مصدرًا للشرور والآثام، من الأديان السماوية حتى تعاليم السياقة. نحن لا نرى هنا نهار الرياض على الإطلاق، وكأنّها مدينة بلا شمس، محبوسون داخل ليلٍ ثقيلٍ لا يتحرك، تعاطٍ نمطي مع الليل بالمعنى الإيجابي للكلمة، بعكس مثلاً فيلم «ميدسومار» لآري آستر، الذي أرانا النجوم في عز الظهر، فحوّل إشراقة الشمس إلى أسبابٍ للرعب الذي يحكم على الأبطال بجحيمِ الضجيج، والانكشاف، ودوام البدايات التي لا تُختم.
وفي ليل الرياض يقع القضعاني في إحدى مصائب الليل، مدفوعًا بجوعه النفسي وبرجولته المخدوشة، حيث يكتشف بالصدفة نشاطًا غير مشروع فيقرّر أن يُجرّب حظه في هذه المخاطرة التي تنتهي به إلى ما لا تُحمد عقباه.
السيارة
كم سيارة خطفتنا في السينما؟ الكثير جدًا في الحقيقة، من «تاكسي درايفر» لسكورسيزي حتى «قودي سيارتي» عن قصة لهاروكي موراكامي، ومن «كريستين» السيارة الحمراء المسكونة حتى «عزيزة» للمخرجة السورية سؤدد كعدان، حيث يدرب الزوج «عبدالمنعم عمايري» زوجته «كاريس بشار» على قيادة سيارتهم الـ«فاكسواغن»، وهي واقفة في مرآب السيارات هلعًا من عالم ما بعد النزوح.
تأتي سيارة فهد القضعاني لتنضم إلى هذا الطابور الطويل، وفي «مندوب الليل» شوارع نهمة معبدة، وسيارة لا تكف عن التحرّك. للسيارات خصوصيّة في الثقافة المحلية، فهي للتنقل والسفر، و«التفحيط» الذي كان في إحدى الفترات هو الوسيلة الوحيدة للترفيه، وهو أيضًا أماكن للخلوة واللقاءات الغرامية كما رأينا في الفيلم الجميل «ناقة» لمشعل الجاسر، فضلًا عن العلاقة النفسية المعقدة مع سياقة السيارات التي ظلّت محظورة على النساء لعقودٍ كثيرة حتى تم السماح بذلك في خطوةٍ وصلت أسماع العالمين.
يُمكننا بسهولة أيضًا تصنيف الفيلم بأنّه من أفلام الطريق، حيث ينتهي الفيلم بالأبطال في هذا «الجانرا» السينمائي الشهير في مكانٍ ناءٍ عن أنفسهم حتى لو عادوا إلى بيوتهم، «كتاب أخضر» لبيتر فاريللي، و«لا سترادا» لفيلليني، و«سكة طويلة» لعمر نعيم، و«أومك أيضًا” لألفونسو كوارون و«تذكّر» لأتوم إيجويان وغيرها الكثير. الطريق في السينما كلما كان أبعد، كان أكثر غوصًا في الذات، وهي رحلة ليست جيدة في جميع الأحوال. تقول فاتن حمامة في «دعاء الكروان» بعد أن نفتهم قريتهم لارتكاب والدهم علاقة محرمة مع سيدة متزوجة: «دي الرحمة اللي قدروا عليها، قرشين لزاد الطريق، وما خافوا علينا من شر الطريق»، وطريق فهد كان كلّه شر.
الخاتمة
يُجيد علي الكلثمي فتح الأقواس، وتركها هكذا حينًا من الدهر، حتى تحل النهاية فتنغلق، ويتم المعنى، ويتحقق المُراد من رب العباد كما يقول عبدالحليم حافظ في مكالمته الشهيرة مع محمد عبد الوهاب. في فيلمه القصير شديد التميّز «وسطي» المعتمد على قصة حقيقية، يشبكنا الكلثمي مع عراكِ بالأيدي وشتائم بين «المطاوعة» المتشددين وطاقم مسرحية في الرياض، ثم يحوّلنا فجأةً نحو «شبشب» شرقي يطير من أحد المتعاركين نحو رجلٍ أعمى يجلس في أحد الصفوف وقبل أن يصل الحذاء هدفه، تتوقف الكاميرا «أو يُفتح القوس»، وتجرّنا الحكاية مع الرجل الذي فقد نظره في إحدى ليالي الرياض أيضًا.
لا يُمكن إنهاء المقال دون الإشادة بطاقم التمثيل، وليس أبطال الفيلم فقط، بل حتى أولئك الممثلين الذين ظهروا في مشاهد معدودة، مثل تجار الكحول، والشيخ الذي وعد فهد بتكفل علاج والده «فهد الغريري»، بل حتى العامل الآسيوي!
«مندوب الليل» فيلم للعقل والعاطفة، مدروس ومحكم بسبب سحر البساطة التي لا يقدر عليها إلا الكبار، كل مشهد تفصيل بالسردِ نحو الغاية القصصية، مهما بدا صغيرًا وغير مرئي. في أحد المشاهد يخرج فهد القضعاني وهو يحمل حقيبة التوصيل من حزام واحد فقط على كتفه، وكأنّه خارج من معركة، وليس من مشوار لتوصيل زجاجتين أو ثلاث من الكحول إلى مكانٍ راقٍ يغرق في الموسيقى. وفي مشهد آخر يظهر البطل بلبسه السعودي بين الوافدين أثناء استلام طلبية مطعم، إنّه الاغتراب الذي يلاحقه في كل مكان!
يقال عادة جملة مستهلكة عند وصف المخرج الموهوب بأنّه «متمكّن من أدواته»، لكن يُمكن القول هنا إنّ الكلثمي متمكن من صوته السينمائي، صوت هادئ لكن واثق النبرات، وهكذا نحصل على المتعة السينمائية ويحصل الأبطال على تعاطفنا خالصًا بلا شائبة. يختتم الفيلم بمشهد لفهد القضعاني في إحدى وسائل المواصلات العامة، وهي الوسيلة التي لا تستخدم في السعودية إلا من العمالة ذات الدخل المحدود جدًا، تتأمل الكاميرا الركّاب/ مناديب الليل، صامتين، غارقين في ليلهم الخاص، ثم يظهر تعريف ثالث على الشاشة لمعنى كلمة «مندوب» تنطبق جميعها على بطلنا، في «مندوب الليل»؛ جينات سردية من أفلام متعددة أبرزها «سائق التاكسي» لكن أقواها «سارقو الدراجات» الذي يسبق «مندوب الليل» بأكثر من سبعين عامًا، لكنّهما يتفقان في امتحانات النفس البشرية وفضائلها. «مندوب الليل»، فيلم يبدأ من ليل الرياض وأرضها، لكنّه ينتمي إلى كل مكان وزمان، أي حيثما يذهب الفن دومًا.