د. محمد البشير
الكتابة فعل عفوي على الأفضل، ومتى ما كانت إرغامًا؛ بدا ذلك في سقطات الكتابة، ومغبة التكرار، والعودة إلى الأقرب في ذهن الكاتب، ورفض المتلقي بعدم كسر أُفق انتظاره، ولذلك كانت وسائل التحريض مهمّة للغاية! وخاصة إذا كانت الكتابة مهنة وفريضة لا بُدّ من تأديتها، ولذلك تقوم الجهات المستفيدة بتهيئة بيئة العمل إن صح التعبير لكتّاب السيناريو، وورش العمل في الأعمال الدرامية، والكتابة على الكتابة، بالاسترسال في المسلسلات ذات المواسم، والسعي لصناعة الفرق للتحفيز على الكتابة، والوصول إلى أفضل النسخ، وأجود ما يمكن تقديمه.
إنّ البحثَ عن الكاتب المناسب الطريقُ الأيسر لصناعة عمل وفق المراد استهدافه، وذلك بتهيئة الأجواء للكاتب لحصد أفضل ما لديه، والعمل معه للخروج بعمل يروق للطرفين، ولعلَّ في نموذج مسلسل «The Offer» لعام 2022م صورة تقرب المفهوم المراد، وذلك من خلال أحداث المسلسل الذي يحكي قصة إنتاج فيلم «The Godfather» الفيلم الأكثر نمذجة على صعيد الصناعة السينمائية، حيث أُنتج المسلسل احتفالًا بخمسينية الفيلم الذي أصدر عام 1972م، ويحكي المسلسل كواليس صناعة الفيلم، وتوثيق قصة منتجه «ألبرت إس رودي» الذي أنتج هذا المسلسل أيضًا لحكاية ما حدث في الخفاء لصناعة هذا الفيلم، وما يعنينا هو لحظة اقتناصه لـ «ماريو بوزو»، وتحريضه على جعل روايته تبيع بمفهوم السوق، بسرد قصص المافيا الجاذبة، وتحويلها من مكتوب إلى مشاهد، ولذلك صنع المنتج الأجواء المناسبة لـ«بوزو» وعزله في منزل؛ ليعيش مع شخصياته دون أن يقطع حب أفكاره أي أحد، واختار «فرانسيس فورد كوبولا» لمساعدته، فليس من قدرة الروائي، أو من يمتلك قصة كتابة فيلم! وهذا ما تعيه الصناعة في مثل هذه الحادثة.
بجمع من يمتلك القصة، ومن لديه القدرة على تحويلها إلى تحفة سينمائية خالدة، فمهارة «فرانسيس فورد كوبولا» ومروره بعددٍ من الأماكن في صناعة الأفلام من كتابة الحوار مرورًا بمنتج مساعد إلى مشارك وكاتب سيناريو لعدد من الأعمال؛ ليتوج بفوزه بجائزة الأوسكار عن سيناريو فيلم «Patton» عام 1971 بالمشاركة مع «إدموند إتش نورث» فضلًا عن كونه أميركيًا من أصول إيطالية تناسب أحدث الفيلم، ونشأته في عائلة فنية تضعه في قلب صناعة السينما، فأمه ممثلة، وأبوه «كارمن كوبولا» ملحن، وموسيقي، وهو من صنع موسيقى الجزء الثاني من «The Godfather» عام 1975م، وحصد عليها الأوسكار مشاركة مع «نينو روتا»، فكل هذه المزايا التي يمتلكها «فرانسيس فورد كوبولا»؛ تجعله الأقرب والأمثل ليُخرج الفيلم، ويخوض تجربة الكتابة مع «بوزو»، وهذا ما حدث بالفعل، فالرواية تجسدت فيلمًا، وهذا الفيلم حصد ثلاث جوائز أوسكار: اثنتين منها للمنتج «ألبرت إس رودي» الذي قام بهذه المغامرة وانتصر، وللثنائي «كوبولا» و«بوزو» اللذين تشاركا التجربة، والأهم من كل ذلك أن يحصد الفيلم رضا المشاهدين، فالفيلم يحتل المركز الثاني في قائمة أفضل 250 فيلمًا لـ«IMDb» حتى كتابة هذه المراجعة، وبتقييم 9.2 من قبل ما يقارب مليونَي مصوّت، وهذا القبول هو أفضل الجوائز التي يمكن لفيلم حصادها، ولكاتب في تاريخه المهني.
لا شك أن الخلطة ما بين مصدر وقانص وموظّف؛ هي أفضل الطرق للاستفادة من المعين لصناعة النهر الجاري الذي يستفيد منه الناس، فمَن يستمتع بماء النهر لا يسأل عن مصدره! وقمة السعادة حين يجد المصدر انعكاسَ ذلك على من يستعذب الماء، وهكذا هي صناعة السينما، فالفكرة، وأصلها، وكيف تكونت، والمراحل التي مرت بها التجربة، والمعاناة التي تمثلها «ألبرت إس رودي» لا تعني المشاهد في شيء! إلا عندما صنعها حكاية أخرى، عندما قدّم سيرته بوصفها قصة تستحق أن تُروى وفق ما يراه. ولأن صناعة السينما والدراما في تحوّل مستمر كالنهر الهادر، والكون في تسارع كبير؛ خرجت النتائج مغايرة، فوفقًا لهرقليطس الذي يقول: «لا يخطو رجل في النهر نفسه مرتين أبدًا»؛ كذلك «رودي» جازف ليعبر النهر مرتين، فهو من حقق النجاح في العراب؛ متناسيًا أن النجاح مثل تجربة خوض النهر لا يمكن استنساخها، ولو اجتهد في ذلك! فما تحقق في العرّاب، لم يتحقق في المسلسل وفقًا لآراء النقاد في «Rotten tomatoes»، وربما يعود الأمر للمساس بما هو مقدس سينمائيًّا، فالحجب أجمل من الكشف، وفيلم العرّاب جميل دون حكاية كواليسه، ومتى ما حاول منتجه الكشف؛ سيقع في مغبة إيقاظ الحالمين، وهذا ربما ما انعكس على النقاد دون المشاهدين، فحين يقيمه النقاد بـ57 ؛ يراه المشاهدون 95، وهذا الأمر يعود للمشاهد الذي يريد أن يرى حكاية جديدة دون محاكمات للحقائق، وللمتعة فقط، وهو ما تحقق للمنتج «ألبرت إس رودي» بتشكيل فريق كتابة حكايته بكل من: «مايكل توكين»، و«ليسلي قريف»، و«نيكو توسكانو»، و«راسل روثبيرغ» و«كيفين جي هينيس» و«مونا ميرا»، ليتولى كل واحد منهم مهمته بحضور الراوي «ألبرت إس رودي»، واشتغال كل واحد بمهمته لتجسيد هذه الحكاية مسلسلًا دراميًّا متناسقًا وَفق معادلة درامية لكل حلقة، وليكون مسلسلًا تراهن عليه «paramont +»، فالأفكار ملقاة على قارعة الطريق، ما لم يأتِ من يحرّض على اقتناصها، والماهر في صناعتها وتجسيدها، وإلا فستظل ملقاة على الطريق، وكان لزامًا على «رودي» أن يخوض السباحة في النهر مرة ثانية؛ فقدرته على قطع هذه المسافة بعد خمسين عامًا نجاحًا لمنتج في هذا العمر، وبمزاج حاول فيه إرضاء مشاهدي هذا العصر رغم أنف النقاد.