عصام زكريا
منذ سنوات تكاد تقترب من العقدين الآن، تحتل سينما الرعب مكانًا ومكانة كبيرين في قلوب وعيون جمهور اليوم، بشكل بات يحير علماء الاجتماع والنفس ونقاد السينما.
ومثل بلاد كثيرة يقبل الجمهور السعودي، خاصة من الشباب، على أفلام الرعب، كما يميل عدد ملحوظ من صناع الأفلام السعوديين الشباب إلى نوع الرعب، وذلك تقريبًا منذ أن بدأت نهضة السينما السعودية منذ خمسة عشر عامًا تقريبًا، وأذكر أن بعض أوائل الأفلام السعودية المستقلة التي شاهدتها من خلال متابعتي لمهرجان الخليج بدبي خلال الفترة بين 2008 و2013 كانت من هذا النوع.
وبشكل عام تنتمي معظم أفلام الرعب السعودية لنوعية «الظواهر الخارقة للطبيعة» من جن وأشباح ومخلوقات غير مرئية، مثل «تمزق» و«كيان» و«الخطابة» وغيرها. ومن هذه النوعية فيلم «السجين» الذي بدأ عرضه مؤخرًا على منصة «أمازون فيديو» بعد عرضه العام في دور العرض.
الفيلم ثمرة تعاون فني بين سينمائيين سعوديين ومصريين، إذ شارك في إنتاجه كلٌّ من فادي إسماعيل ومحمد حفظي، وقام بإخراجه المصري محمود كامل عن نص لأحمد الملواني، وشارك في بطولته النجمان السعوديان خالد صقر وإلهام علي.
مثل كثير من أفلام الرعب، فإن «السجين» ينتمي لنوعية الإنتاج منخفض التكاليف، الذي تقوم فكرته على عدد قليل من الشخصيات داخل مكان واحد، ويعتمد على عناصر التصوير والمونتاج والصوت بشكل أساسي لصنع التأثير المطلوب، وهو إرعاب المشاهد، وزعزعة إحساسه بالواقع من حوله.
يدور «السجين»، مثل كثير من الأفلام منذ The Shining، ستانلي كوبريك، 1980، وحتى Sinister، سكوت ديكرسون، 2012 «والاثنان بالمناسبة يعتبران من أكثر الأفلام إرعابًا في التاريخ» على أسرة صغيرة مكونة من زوجين وطفل «أو طفلة» ينتقلون للإقامة في بيت جديد هادئ وقديم يتبين أنه مسكون بالأرواح الشريرة.
الزوجان هنا هما عمار «خالد صقر» ونوران «إلهام علي» وابنتهما ريم «ريم عبد القادر»، أما البيت، فهو لصديق وزميل عمل لعمار يؤدي دوره عبد الله النفيسي.
قبل نزول العناوين يكشف لنا الفيلم فكرته وقصته: في دبي، 2018، رجل يبدو عليه الجنون يطلق النار على زوجته ثم يحرق نفسه أمام لوحة غريبة لرجل غريب الملامح، ثم ننتقل إلى الرياض 2021، إلى الأسرة التي تنتقل للإقامة في بيت جديد.
منذ البداية يتبين أن العلاقة بين الزوجين متوترة بسبب وفاة طفلهما «توأم ريم»، قبل وقت قصير، واعتبار الأم أن إهمال زوجها بسبب انشغاله بعمله هو سبب وفاة الطفل. وهي تلومه على ذلك طوال الوقت بالنظرات وتجنُّبه وبشكلٍ مباشر أحيانًا.
ومنذ البداية يتضح «لنا نحن المشاهدين» أن المنزل ليس طبيعيًّا، إذ سرعان ما تكتشف الزوجة وجود اللوحة الغريبة التي شاهدناها في المقدمة، وهي لوحة تصدر عنها أصوات مثل فحيح الثعابين، وتجذب الزوجة بشكل مغناطيسي، بينما الطفلة تخاف منها وتنتابها الكوابيس بسببها. كذلك سرعان ما تحدث بعض الظواهر الغريبة الأخرى مثل دمية الطفل الراحل التي تتحرك من مكان لآخر داخل البيت، ودخول الزوجة في نوبات استحواذ تكاد تقتل ابنتها في أثناء واحدة منها. وتتوالى هذه الظواهر بكثرة وسرعة حتى يمكن أن يتساءل المشاهد: كيف لا يمكن أن تنتبه الشخصيات إلى ما يحدث حولها ولها، وكيف تمارس حياتها بشكل عادي وكأن شيئًا لم يحدث. بالطبع هذه ليست مشكلة الشخصيات ولكن مشكلة الفيلم، الذي راكم هذه الظواهر خلال وقت قصير، ودون فواصل، ويمكن الرجوع إلى الفيلمين اللذين أشرت إليهما وهما The Shining وSinister لرؤية كيف يبنى التشويق وتتصاعد الظواهر تدريجيًّا، بحيث لا تنتبه الشخصيات إلا بعد فوات الأوان.
بغض النظر عن هذه الملحوظة، يستطيع مخرج «السجين»، مع مدير التصوير والمونتير، أن يصنعوا جملًا سينمائية محكمة ومعبرة دون اعتماد على الحوار تقريبًا إلا للضرورة القصوى، خاصة في تلك المشاهد التي تبدأ فيها اللوحة بالاستحواذ على الزوجة، والمَشاهِد التي يعاني فيها الزوج تصرُّفات زوجته دون أن يستطيع أن يفعل شيئًا. وتزداد قوة الفيلم سينمائيًّا بداية من نصفه الثاني، بعد أن يتبين أن اللوحة يسكنها جني سجين، يستحوذ على أرواح الناس، وتبدأ المواجهة الفعلية مع إدراك الزوج للخطر ومحاولته الخروج بعائلته من البيت سالمين. عند هذه اللحظة يتداخل الواقع بالخيال، واليقظة بالكابوس. ويجيد صناع الفيلم التحكم في التصعيد بسرعة وصولًا إلى النهاية. وبشكل خاص يوجد في الثلث الأخير مشهد كابوسي يتخيل فيه أفراد الأسرة أنهم خرجوا من البيت، وركبوا سيارتهم، بينما هم لا يزالون داخل البيت غير قادرين على الخروج من الحلم. وهو مشهد منفَّذ بشكل جيد للغاية.
ومثل معظم أفلام الرعب تلعب الكاميرا وحركتها دورًا محوريًّا في صنع التأثير وبث الشعور بالقلق، مدعومة بالإضاءة التعبيرية والديكور والمونتاج. ويعتمد مدير التصوير إريك ديفين على الكاميرا التي تتحرك باستمرار، متدرجًا بين الحركة الخفيفة وغير المحسوسة في بداية الأحداث، وصولًا إلى الحركة اللاهثة والمحمومة قرب النهاية. وتلعب المرايا وانعكاسات الممثلين داخلها دورًا كبيرًا في إشاعة الشعور بوجود كائنات أخرى في المنزل، وهناك مشهد تستخدم فيه المرايا بشكل جيد للغاية، حيث يخرج منها شبح الطفل المتوفى، فيصبح سطح المرآة كما لو كان صفحة مياه بين عالمي الواقع والغيب.
تعتمد هذه النوعية من الأفلام، بجانب التصوير والمونتاج والموسيقى والمؤثرات الخاصة، على التمثيل بشكل أساسي. ورغم أن المساحات التي يلعب فيها الممثلون محدودة مقارنة بدراما الشخصيات ذات المواقف والانفعالات الكثيرة، فإنَّ هذه المساحة المحدودة تحتاج إلى تحكم وتعبير داخلي، ينفجر في لحظات الذروة، وهذا ما تفعله إلهام علي بإتقان، حيث تتنقل بين الاكتئاب والعصبية والخضوع ثم الهيستيريا بسلاسة مدهشة. كذلك يجيد خالد صقر التعبير عن الحزن الداخلي والتجمل الصامت لظلم زوجته، ثم القوة وتولّي زمام الأمور ومواجهة الخطر غير المرئي بشجاعة. أما الطفلة ريم عبد القادر فتظهر موهبة فطرية، رغم أن دورها كان يحتاج إلى بعض التنويع، على الأقل في البداية قبل أن يتملكها الخوف.