بيلا بالاش
ترجمة: محمد عثمان خليفة
تحدث اللقطة القريبة فى بعض الأحيان انطباعا بأنها مجرد اهتمام طبیعي بالتفاصيل. لكن اللقطات القريبة الجيدة تشع موقفًا إنسانيًا رقيقًا أثناء تأمل وتدبر الأشياء المخفية، وعناية دقيقة وتعاطفًا رقيقًا مع الأشياء الأليفة في الحياة، وإدراكا دافئا. إن اللقطة القريبة الجيدة شاعرية لأن القلب هو الذي يدركها ويحسها، وليست العين.
واللقطات القريبة هي في العادة تكشّفات درامية لما يحدث في الواقع تحت سطح المظاهر. قد ترى لقطة متوسطة لشخص جالس يدير حديثًا في هدوء بارد. بينما توضح لك اللقطة القريبة أصابع مرتعدة تعبث في عصبية بجسم صغير، دليلًا على وجود عاصفة في صدره. ومن بين صور لمنزل مريح ينطق بالأمان والهدوء المشمس، نرى فجأة تكشيرة خبيثة لرأس شرير على رف المدفأة المحفور، أو التعبير المنذر بالشر لباب يفتح على ظلام فيلقى ظلا لكارثة وشيكة الحدوث عبر المشهد المرح، مثلما يفعل اللحن المميز الذي يعبر عن قدر محتوم في مسرحية ما.
إن اللقطات القريبة هى الصور التى تعبر عن الإحساس الشاعري للمخرج. إنها تصور وجوه الأشياء وتلك التعبيرات التي ترتسم عليها ويكون لها مغزاها ودلالتها لأنها تعبيرات تعكس شعورنا اللاواعي. هنا يكمن فن المصور السينمائي الصادق.
رأيت هذا المشهد الدرامي في فيلم أميركي قديم جدًا: العروس الواقفة أمام المذبح فى الكنيسة تجرى فجأة من عريسها الذي تكرهه، وهو رجل ثرى مفروض عليها. وعلى العروس أثناء اندفاعها بعيدا أن تمر خلال غرفة كبيرة مليئة بهدايا الزفاف. وكلها أشياء جميلة، أشياء جيدة، أشياء نافعة، أشياء تشع ببسمة الأمان والطمانينة والثراء، وكلها تميل إليها بوجوه معبرة. هناك أيضًا الهدايا التي قدمها لها العريس: وجوه أشياء تشع الرعاية والتقدير والحنان والحب. تبدو جميعها وكأنها تنظر إلى العروس الهاربة لأن العروس تنظر إليها، وتبدو كلها وكأنها تمد أيديها إلى العروس التي تشعر أن الهدايا تفعل ذلك. وهناك الكثير والمزيد منها، أنها تزحم الغرفة وتسد عليها الطريق. فيتباطأ هربها أكثر وأكثر حتى تتوقف وتستدير راجعة في النهاية.
الثلاثة عشر
هذا هو عنوان أحد أفلام المخرج ميخائيل روم. وليست الحياة الدرامية ذات الدلالة التي تضفيها اللقطة القريبة على الأشياء احتكارًا للفيلم الصامت وحده. فقد استخدمها روم فى فيلمه «الثلاثة عشر» عندما كان الفيلم الناطق قد تطور تطورا كاملا بالفعل. يحيط قطاع الطرق في الصحراء بجماعة صغيرة من الجنود، فيبعثون واحدا منهم على جواده لإحضار العون. ونرى بالتبادل صراع الحياة والموت للاثنى عشر جنديا الباقين، وهو صراع لا يمكن أن يدوم طويلًا والمسيرة الطويلة الخطرة للفارس الوحيد عبر رمال الصحراء. وعليه تتوقف حياة الاثنى عشر جنديًا الآخرين، ولذلك فالصراع الذي يخوضه ومصيره يهماننا أكثر من الآخرين الذين لا تقدم المعركة التي يخوضونها من وراء حاجز من الرمال إلا قليلًا من التغيير والتنوع بالنسبة للعين.
والعدو الذي يمتحن الفارس الوحيد قوته ضده هو طول الطريق. كيف يصور المخرج هذه التجربة؟ بتصوير الفارس وهو يمتطي حصانه المرة بعد الأخرى! سيمل المشاهد قبل أن يمله الفارس نفسه. ولهذا لا يصور لنا روم الجندي الراكب حصانه على الإطلاق، بل يصور آثاره في الرمال فقط. وهذا يروى لنا أكثر مما يرويه أي تصوير المركوب، وأكثر مما يستطيع وجه الجندي الراكب أن يوضحه. لأن آثار الأقدام فوق الرمال تقدم لنا أكثر الأشياء إثارة للرعب والفزع، وهو الطول الرهيب للطريق. فنرى بانوراما كبيرة للصحراء التي لا حدود لها وعلى سطحها الناعم خط مفرد وحید كئيب من آثار أقدام الحصان تضيع في ضخامة المساحة الممتدة بلا نهاية الى الأفق البعيد. كم من الوقت والفيلم الخام كان المخرج سيحتاجه ليقدم لنا بواسطة مشاهد الركوب التأثير الذي حققه بواسطة صورة بانورامية واحدة؟