رامي عبدالرازق
من أكثر الجدليات الشائكة التي عادة ما تمسخ جهد الكثير من الأعمال المقتبسة عن نصوص أدبية هو الدفع بدعوى أن النص الأصلي أفضل من السيناريو المقتبس، لأسباب غالبًا ما تتعلق بطبيعة الوسيط اللغوي والقدرة على التعبير والجمل الرصينة الأصلية المركبة، وهي دعوى تغفل في كثير من الأحيان اختلاف الوسائط وطبيعة اللغة التعبيرية وعنصر الزمن والأسلوبية.
كما تضم تلك الجدلية أيضًا التهمة المقولة بأن السيناريو أفسد روح النص، التي هي بالمناسبة واحدة من الخرافات التي ليس لها محل من الإعراب الفني فالاقتباس هو وجهة نظر السيناريست في النص على مستوى الشكل والمضمون، ومسألة روح النص هي مسألة تأويل نسبي تختلف من متلقي لأخر، وإذا كنا نمنح النقاد الحرية في تقديم قراءات مختلفة ألوانها للنص الواحد، فلا يوجد معنى إذن لما يطلق عليه روح النص، ولو مددنا الخط على استقامته فلن نجد هناك فارق بين قراءة الناقد للنص الأدبي وبين إعادة إنتاج السيناريست لما يراه متفقًا مع رؤيته من النص نفسه، فالسيناريو هو قراءة بصرية ودرامية في النص الأدبي تمامًا مثل تطبيق المناهج النقدية على نفس النص من قبل الناقد بما يعيد إنتاج النص أيضًا على المستوى الذهني والانفعالي في صورة تفكيكية، ولمن لا يدرك حجم الجهد المبذول في عملية الاقتباس يمكن أن نشير له إلى أن السيناريست الذي يتصدى لاقتباس أي نص أدبي يمر بمرحلة تفكيك وقراءة وتأويل وتنظير لا تقل دسامة ولا جهدًا عن الطاقة التي يبذلها الناقد لتقديم رؤيته عن النص! والفارق أن السيناريست بعد أن ينتهي من «مشواره النقدي مع النص» يبدأ في مشوار جديد يبلور فيه «رؤيته النقدية» بالمفهوم الأشمل عبر وسيط الصورة لإنتاج هذه الرؤية من خلال الضوء.
جوهر وذو الفقار
«كان يعمل طوال حياته ليدفع ثمن تعليمي وها أنا ذا الآن قد تعلمت، ولم أدفع له أي شيء، عمله قد خدم علمي، ما الذي يجب أن يخدم الآخر؟ العمل هو الذي يخدم العلم؟ أو العلم هو الذي يخدم العمل؟ العمل؟ هل العلم شيء منعزل عن العمل؟ وماذا يصنع عندئذ الناس؟ وام قيمته في الحياة، ما معناه؟». هكذا يتحدث الدكتور حمودة المتخصص في حرف الجر الرائع «حتى» وهو يتأمل في مسألة العلاقة بين العلم والعمل بينما يأكل البسبوسة وهو جالس مع البرنس فريد على كورنيش النيل بعد أن تعارفا بسبب «عزومة» كوز ذرة.
في عام 1959 وعقب استيلاء الجيش على السلطة في مصر وطرد الملك وإقرار قوانين الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية وتجريد الأسرة العلوية من ثرواتها بحجة استرداد أموال الشعب كتب الأديب المصري توفيق الحكيم مسرحيته الشهيرة الأيدي الناعمة والتي حاولت أن تقف على تأمل يجمع ما بين المنهج الاجتماعي والفلسفي حول سؤال المفاضلة بين العلم والعمل، وإيهما أنفع وأجدى للمجتمع الجديد الذي تشكل بعد 1952 وهو ما أشرنا إليه في المونولوج الخاص بالدكتور حمودة والذي يأتي في الفصل الثاني من الكوميديا الاجتماعية المكونة من أربعة فصول.
وعقب صدور المسرحية بأربعة أعوام تقريبًا قدم الثنائي «الكاتب يوسف جوهر والمخرج محمود ذو الفقار» تجربتهم السينمائية الشهيرة المقتبسة عن المسرحية، اكتسب الفيلم فيما بعد شهرة أيقونية مع بداية عرضه في التليفزيون العربي تزامنًا مع احتفالات الأعياد القومية وعلى رأسها عيد العمال في الأول من مايو، وكان كل من جوهر وذو الفقار قد سبق لهم عام 1959 أن قدما اقتباسًا لم ينل نفس الحظ من الشهرة لرواية الحكيم الرائعة «الرباط المقدس» التي صدرت في بداية الأربعينيات، وهي رواية تنتمي للإثارة الاجتماعية مع قدر كبير من التنظير الفلسفي، حاول فيها الحكيم أن يحلل وجهة نظره في مستويات العلاقة بين الرجل والمرأة بدءًا من الجنس مرورًا بالحب والزواج والخيانة.
تجدر الإشارة إلى أن يوسف جوهر «1912-2001» من الجواهر الكامنة في مجال الاقتباس السينمائي من الأدب في السينما المصرية، ورغم قلة عدد الأعمال التي قدمها إلا أن غالبيتها حصدت شهرة هائلة، ولا يزال بعضها يدرس كنموذج للإبداع الموازي بين الحبر والضوء، ويكفي أن نشير إلى تجربته مع طه حسين «دعاء الكروان» 59، و«الحب الضائع» 70 وكلاهما للمخرج هنري بركات، مرورًا بالأيقونة المميزة «بين القصرين» مع حسن الأمام عام 64.
البرنس والدكتور
تدور أحداث الأيدي الناعمة حول رحلة كلا البطلين البرنس فريد العاطل بالوراثة بعد أن تمت مصادرة أملاكه وتركه وحيدًا يعيش في قصره الفخم الواقع تحت الحراسة والدكتور حمودة المتخصص في علم النحو وتحديدًا في حرف الجر حتى، وكيف تنمو شخصياتهم بسبب رغبتهم في البقاء على قيد الوجود عبر صداقتهم الطريفة وعيشهم المشترك في قصر البرنس ثم وقوع كلاهما في الحب، البرنس في حب كريمة أخت زوج ابنته التي طردها من جنته الخاوية بعد أن تزوجت من سالم المهندس الميكانيكي الذي يمثل واحدة من الطبقات الجديدة في مجتمع ما بعد 52، بينما يغرم الدكتور بجيهان ابنة البرنس بعد أن يراها ذات مرة وهي تحاول إقناع أبيها أن يقبل مساعدة سالم زوج اختها.
ويتخذ النص المسرحي أسلوب الراوي اللصيق حيث يتحرك مع البرنس فقط ما بين الكورنيش والقصر الكبير الذي يعيش فيه برفقة الدكتور حمودة، مع بعض القفزات الزمنية الأقرب للمونتاج السينمائي في الانتقال من مرحلة لأخرى في رحلتهم خاصة بعد أن يبدأ في تأجير القصر من الباطن من أجل أن يجدا مصدر غير مباشر للطعام والحد الأدنى من كرامة العيش.
أما فيما يخص السؤال الأساسي للنص والذي سبق وأن أشرنا إليه فنجده يأتي عبر الحوار بين البرنس والدكتور ضمن سياقات محاولة إقناع المهندس سالم بقبول فكرة زواج كريمة وجيهان من البرنس والدكتور رغم كونهما عضوين غير فاعلين لا في مجتمع العلم ولا في مجتمع العمل.
إخرس
قام جوهر بتحرير الراوي من الحضور اللصيق بالبرنس، الذي تغير اسمه من فريد إلى شوكت على اعتبار أنه اسم له جذور تركية أكثر ارستقراطية، وجعله راوي عليم ينتقل ما بين البرنس والدكتور حمودة وفيلا المعادي التي تمثل القيادة المركزية في الصراع الذي انطلقت شرارته بين البرنس وبناته، لنفس السبب في المسرحية؛ وهو الرفض الطبقي للزيجة من سالم وطبقته. وقام السيناريو بتضخيم الشعور بالذات، والوصول بالطبقية حد العنصرية، مرورًا بالتعالي والزهو الأرستقراطي، مع بعض العصبية والكثير من الإنكار، لتصبح تركيبة شخصية البرنس في الفيلم أكثر نضجًا وطرافة وجاذبية من تركيبته في المسرحية، بل وأخذ السيناريو من تكرار فعل الأمر المتعالي «إخرس» الذي يسكت به البرنس الدكتور حمودة بضع مرات في النص، وجعل منه لازمة تلخص شخصية البرنس، خصوصًا في المراحل التي سبقت خضوعه العاطفي، وانكسار كبرياءه الطبقي أمام غرامه الشديد بكريمة أخت سالم.
صنع جوهر من الثنائي شكوت وحمودة أمثولة فيما يخص قيمتي العمل والعلم، فحمودة يمثل العلم الذي لا ينفع المجتمع من وجهة نظر السيناريو نحن في عام 63 حيث ذروة المد الاشتراكي، وهو لا جد نفسه في النهاية سوى في أن يصبح ممثلًا على اعتبار أن الفن ضمن المجالات الهادفة التي يمكن أن تنفع المجتمع الجديد بدلًا من تدريس «حتى» والتحاقه بمجال التمثيل هو إضافة كاملة من السيناريو خصوصًا مع المواقف الطريفة التي تمت صياغتها عن طبيعة علاقته بالبرنس أثناء إقامته معه في القصر كما في مشهد سرقة «العشرة جنية» من وراء البرنس بعد أن غطاها بالصحيفة كي لا يلاحظها حمودة ظنًا منه أن ثمة «قوى عليا» من أرواح أجداده تمنحه المال، دون أن يدري أنها مؤامرة طيبة من بناته بالتعاون مع الدكتور.
أما شوكت نفسه فقد استخدمه السيناريو للسخرية من بقايا الأسرة العلوية والطبقة المخملية خاصة فيما يتعلق بقيمة العمل فهو يزرع الأرض مرتديًا قفازات غالية الثمن فتضحك منه كريمة وتقول له أن الفأس لا يعرف الأيدي الناعمة وهي أيضًا من إضافات السيناريو التي صاغت مشاهد كاملة عن تطور العلاقة بين كريمة وشوكت وبين حمودة وجيهان ابنته التي صارت فنانة تشكيلية في الفيلم.
ثم ينتقل السيناريو إلى تطوير الصراع عبر إحداث صدام عنيف حين يكتشف شوكت أن كريمة وأباها الحاج هما أخت ووالد سالم زوج ابنته المغضوب عليهم، ساعتها لا يطيق المؤامرة التي صاغوها عليه، في حين أن المسرحية تجعل رد فعله باهتًا باردًا يتقبل ما حدث بسلاسة لمجرد أنه وقع في حب كريمة حتى أن حمودة يتعجب في النص من تقبله ويظن أنه يرتب لانتقام ما! بينما يطور السيناريو من الصراع بصورة جذابة وقوية تذهب أكثر باتجاه تدعيم الفكرة التي انتقاها من النص ألا وهي قيمة العمل في مجتمع يرغب في أن يكون كل اأفراده منتجين بلا فوارق طبقية من أي نوع، رغم أن النص نفسه يشتكي من مسألة الفوارق الطبقية في مجتمع ما بعد 52 في مشهد شكوى بائع البسبوسة من كون أولاده الثلاث عاطلين عن العمل رغم كونهم حاصلين على شهادات عليا.
في السيناريو يتحول ابن بائع البسبوسة إلى موظف في وزارة الخارجية خاطب لأبنة وكيل وزارة والكل يبارك الزيجة والحجر الهب والحجر الفضة الذي سوف يبني عش الزوجة «اختصارًا للعمل والحب»، وهو ما ينحو بالفيلم طبعًا ناحية المنطق الدعائي الذي كان ساريًا في تلك المرحلة خصوصًا مع تماس النص مع كون بطله من الأمراء السابقين الذين كانوا من فواتح الشهية لدى كتاب ومثقفي المرحلة للهجوم على ما يعرف بالعهد البائد.
وبينما ينتهي النص بانتظار شوكت وحمودة لنتيجة المداولة بين سالم وزوجته وأبيه بخصوص قبول البرنس والدكتور كأفراد في العائلة الجديدة ينتهي السيناريو بتحول ضخم وملموس في شخصية شوكت وحمودة على حد سواء فالأول يقرر أن يستغل ثقافته واتقانه للغات، وهي صفات مضافة عليه في السيناريو، لكي يصبح مرشدًا سياحيًا، والثاني يتنازل عن عشقه لـ«حتى» ويصبح ممثلًا وبالتالي يكتمل مثلث العلم والعمل والفن ليحقق التحفيز المطلوب لوعي المتلقي من أن تلك الدعائم الثلاث هي أساسيات أي مجتمع حديث ومتطور، رغم أن الواقع آنذاك كان يخالف تلك الروح الدعائية بصورة كبيرة وصلت إلى حد التناقض في بعض الأحيان.