د. وليد سيف
قبل أن ينقضي العقد الأوَّل من القرن الحادي والعشرين بدأت مرحلة الغزو الهندي الثالث لسوق السينما العالمية، ولكن هذه المرة من خلال أفلام تجمع بين الجماهيرية والأسلوب الفني والفكري الراقي في الوقت نفسه.
فأفلام الهند الجادة لم تنجح في الماضى غالبًا إلا في المهرجانات الدولية، بينما اجتاحت السينما الهندية العالَمَ من زمن بميلودراماتها الحزينة والغنائية الراقصة في الخمسينيات والستينيات بمجموعة من أهم الأفلام التي أصبحت خالدة في ذاكرة السينما، ومنها: «ماسح الأحذية» من إخراج براكاش أرورا 1954 و«سانجام» لراج كابور من إنتاج 1964.
كما عادت مرة أخرى في الثمانينيات والتسعينيات بموجة أفلام الحركة ذات البعد الاجتماعي، التي تسيَّدها نجم النجوم الهندي أميتاب باتشان، ثم عادت من جديد بأفلام إنسانيّة الطابع عالمية التوجه، تتضمن عددًا من الرسائل السياسية والاجتماعية المهمة، مثل «نيويورك» إنتاج 2009، من إخراج كبير خان و«اسمي خان» 2010 لكاران جوهار.
بموازاة التيار التجاري، تواصلت أمواج السينما البديلة وكان من أهم رموزها ميرا نايير، التي حازت جائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان عن فيلمها «سلام بومباي»، الذي حاز العديد من الجوائز الدولية، ورُشِّح لأوسكار أحسن فيلم أجنبي. وتوالت أفلامها الرائعة، ومنها: «زواج في موسم عاصف»، وقد حصل على الأسد الذهبي لمهرجان فينيسيا السينمائي، واستمر هذا التيار مع الألفية الجديدة.
يأتي فيلم «بيتي» للمخرج رومي ميتي في هذا السياق بامتياز، وعنوانه بالإنجليزية «My home»، وهو في تلك اللغة يمكن ترجمته أيضًا إلى «وطني»، وحقيقة الأمر أن الفيلم يحمل المعنيين فهو من خلال قصة تنتهي بافتقاد الأسرة للبيت يعبر أيضًا عن افتقاد الوطن الذي نشأ فيه صبي صغير في حضن أمه وأبيه، يعيشون في بيئة مغرقة في الفقر في بيت أقرب للكوخ الخشبي على بحيرة، حيث يعمل الأب بصيد السمك الذي يكفل لهم بالكاد قوت يومهم، بعد أن تبيعه الأم في سوق القرية.
لكن هذه الظروف الفقيرة تأتي وسط بيئة ثرية محاطة بجمال الطبيعة الخلابة يصورها الفيلم بإجادة وتركيز، وهو يُقدِّم ما يشبه الحياة اليومية شبه التسجيلية دون أن تفقد طابعها الدرامي للأسرة البسيطة المكافحة، التي يحمل ولدها جينات أبيه وأمه: الأم الذكية ذات العقلية الرياضية التي تجيد الحساب بتعليم متواضع وذكاء فطري، والأب الصبور القوي الطيب المخلص لأسرته وعمله وبيته.
يسعى الصبي الذكي الطموح المتفوق دراسيًّا إلى الفوز في مسابقة علمية، يدعمه مُدرِّسه الشاب المؤمن بموهبته، الذي يسافر يوميًّا لمسافات طويلة بدراجته البخارية لهذه القرية النائية ليقوم برسالته التعليمية بكل جهده وطاقته. ولا يتوانى الصبي عن الوصول إلى مكان المسابقة في كل مرة مهما واجهته من عقبات حتى لو اضطرته الظروف إلى أن يصل عائمًا في البحيرة، بعد أن باع أبوه مركبه الصغير، لتدبير نقود العلاج، فيتفنن في حماية كتبه وأوراقه من البلل بكل الوسائل، لكن المصاعب تتزايد حين يجري منع الصيد في قريته، والاستيلاء على بيته، واضطرار الأسرة للرحيل.
نحن هنا بصدد أبطال حقيقيين لا يمتلكون قوة خارقة مثل أبطال السينما الهندية التقليديين، ولكنَّ أبطال فيلمنا لديهم طاقة جبارة للمقاومة ومواجهة الظروف الصعبة والحياة القاسية من أجل مستقبل أفضل وغد مشرق.
ليس من الضروري أن تعرف أن هذا الفيلم يستند إلى واقعة حقيقية، فهو ليس منشغلًا بالسياسة، أو برصد الحدث التاريخي الفعلي الذي وقع منذ سنوات، بقدر انشغاله بالإنسان، باحتياجاته وهمومه وطموحاته وسعيه الدؤوب نحو تحسين أحواله، وهو ما يجعل العمل قادرًا على مخاطبة الإنسان في كل مكان، حتى ولو من خلال قصة محلية لكنها تتلاقى مع أفكار إنسانية.
لا يلتزم السيناريو بالأسلوب التقليدي؛ فمنطقة الأزمات الكبرى تأتي متأخّرة جدًّا، لكن المساحات التي تسبقها في الفيلم تمنح المُشاهِدَ التعرُّفَ على الشخصيات وعالمهم وهمومهم الصغيرة بصورة تدفعه للتعايش والتعاطف معهم إلى أقصى حد، وبخاصة الابن رمز الأمل والمستقبل. ومن هُنا يكون التأثير الأقوى والتعاطف الشديد مع الأسرة بعد وقوع الأزمة وكأنها أسرة أنت تعرفها عن قرب.
لا يعيب السيناريو في رأيي سوى تعاقب الأزمات بلا فواصل «أزمة مرض الأب ثم أزمة طردهم من البيت» على الرغم من وجود مساحات طويلة بلا أزمات.
يعتمد الفيلم على لغة الصورة بالأساس، ومشاعر فريق من الممثلين المبدعين الذين يؤدون بأسلوب أقرب إلى الطبيعي، ودون اللجوء إلى أي مبالغات، وهو يستخدم الحوار بأسلوب مقتصد، بل إنّ شريط الصوت نفسه شديد الهدوء متّسق مع طبيعة الفيلم الهادئة وطبيعة صراعه الإنساني.
هكذا يسيطر المخرج رومي ميتي على إيقاع فيلمه البصري والصوتي وعلى أداء فريق الممثلين الانفعالي لكي تصل رسالته بهدوء ووضوح وصدق، وهو مخرج صاحب خبرة كبيرة قدم من قبل حوالي 40 فيلمًا روائيًّا ما بين الطويل والقصير، لكن معظم إنتاجه السابق كان ينتمي للسينما التجارية التقليدية، لكنه في هذا الفيلم يحقق فيلمًا يعبر عن قضية وطنية وإنسانية بمقدرة فنية فائقة.
وقد شارك من خلاله في عديدٍ من المهرجانات، واقتنص عددًا من الجوائز منها جائزة النقاد الدوليين، كما حصل مؤخّرًا على جائزة أفضل مخرج في مهرجان روسيا كازان.
جاءت الألفية الجديدة، وقد دعمت السينما الهندية وجودَها بهذا التنوع الخلّاق في الأنواع والاتجاهات، ونفضت عن نفسها غبار السير في اتجاه واحد، وأصبح لديها ما يلبي احتياجات جماهيرها بمختلف أذواقهم واتجاهاتهم.
لم يكن هذا التنوع سبيلًا فقط لإنعاش الصناعة وتلبية مطالب الجماهير، لكنَّه أيضًا صنع حالة من التفاعل بين صناع السينما، وتقاربًا بين مختلف المدارس والاتجاهات؛ فالكوادر الفنية التي تدربت وصقلت خبراتها كان بإمكانها أن تجتر هذه التجارب لصالح فن به درجة من الإجادة والتمكن الحرفي وإحكام الصنعة، إلى جانب فهم صحيح للذوق وثقافة المتلقي والقدرة على الارتفاع بذوقه قدر الإمكان، وكذلك تحقيق لغة تفاهم وتواصل بين الجمهور والسينما، التي بدأت تتعامل معه باحترام أكبر لعقليته عكس السابق، وبقدرة واعية على التمييز بين التحليق بخيال المُشاهِد في إطار أسطوري أو فانتازي، والالتزام بشروط وأصول المنطق العادي في الأطر الواقعية التقليدية.
تغيرت بوليوود في السنوات العشر الأخيرة كما يقول الناقد السينمائي «شوبرا جوبتا»، ويؤكد على هذا التغيير بقوله: «لم يعد هناك نمط واحد فقط في بوليوود والمتمثل بالطبع في الاتجاه الكلاسيكي الذي تطغى عليه العواطف الكثيرة المصحوبة بالدموع، وإنما هناك أيضًا بوليوود بشكلها التقليدي في سرد القصة ودمج عناصر جديدة فيها.