عصام زكريا
على مدار أكثر من ستين عامًا يشغل «مارتن سكورسيزي» موقعًا فريدًا ومؤثّرًا في السينما الأميركية والعالمية، بوصفه واحدًا من المجددين الذين صنعوا ما يُطلَق عليه «هوليوود الجديدة» في بداية سبعينيات القرن الماضي، ومؤلفًا سينمائيًّا صاحب رؤية وأسلوب وبصمة لا تُخطئها العين. وأيضًا بوصفه واحدًا من عشاق السينما المتيمين، ومؤرخًا وأستاذًا، وناقدًا بالمعنى الأصلي للكلمة: يميز بين الأصلي والمزيف، بين الذهب والصفيح، ومدافعًا دؤوبًا عن فن السينما، وعدوًّا لا يلين للغث والسطحي، حتى لو كان أفلام «مارفل» التي تحصد البلايين.
في ثمانينياته «ولد في 1942» لم يزل سكورسيزي يحتفظ بشبابه الفني، وروح التجريب، والجرأة على النظر دون خوف إلى قلب الظلام داخل النفس البشرية وتاريخ أميركا وحاضرها. ليس أدل على ذلك من رائعته الأحدث «قتلة زهرة القمر The Killers of the Flower Moon»، الذي يحمل الكثير من العناصر المدهشة على مستوى الشكل والمضمون.
ما الذي يعنيه اسم مارتن سكورسيزي؟ ما الذي يتبادر إلى الذهن حين سماع اسمه؟ وما السمات التي تشكل أسلوبه ورؤيته وبصمته الفنية؟
منذ فيلمه الأول «من ذا الذي يقرع بابي؟ Who’s That Knocking at My Door» لعام 1967، الذي كان مشروع تخرجه حين كان طالبًا، قبل أن يحوله إلى فيلم طويل، يُظهر عالم سكورسيزي المختلف والأصيل، النابع من تجاربه الذاتية والبيئة التي عاش فيها، في أحياء الطبقة الدنيا من الأمريكيين من أصل إيطالي.
من الطريف أن الفيلم يبدو «عربيًّا»، أو بالتحديد «شرق أوسطيًّا»، تمامًا، في تصويره لحياة وثقافة الذكور في مجتمع محافظ. يبدأ الفيلم المصور بالأبيض والأسود بلقطات داخل بيت «إيطالي» أميركي: تمثال ديني للسيدة العذراء تحمل طفلها، وأم تقوم بإعداد فطيرة باللحم، تطهوها في الفرن، ثم تقوم بتوزيعها على أطفالها الصغار الذين تبدو عليهم السعادة بأنهم سيأكلون أخيرًا. ثم قطع على الشارع، حيث يقوم الصبية المتسكعون، ومنهم الشاب الصغير الهادئ «جي. آر» «هارفي كيتل في أول أدواره التمثيلية»، يتشاجرون بعنف. أربع دقائق تقريبًا دون كلمة واحدة، قبل أن ننتقل إلى مشاجرة أخرى، بسبب القمار والمال. في وسط هذا العنف، يلتقي «جي. آر» بفتاة جميلة، يتعرف عليها، كلاهما خجول، يتحدثان عن الأفلام، ويذكر جون وين وفيلم «الباحثون» لجون هيستون، أحد كلاسيكيات الويسترن المفضلة لسكورسيزي. الأداء التمثيلي هنا يبدو واقعيًّا ومرتجلًا وسابقًا لعصره.
تنمو علاقة جي آر والفتاة «التي لا يذكر اسمها في الفيلم، وتشير إليها العناوين فقط بـ«الفتاة»!»، ويبدي رغبته في الزواج بها، ولكنه يرفض «مبادرتها» بتوطيد العلاقة جسديًّا لأنه يرغب في أن تظل عذراء حتى الزواج. ولكنه يتلقى صدمة كبيرة عندما تخبره أن صديقًا سابقًا لها قام بالاعتداء عليها. ينهار «جي. آر» ويتركها. ينغمس في حياة الشرب واللهو مع أصدقائه المتسكعين، ثم يندم، ويعود إليها ليخبرها أنه «سامحها»، فترفضه لأنها تعلم أنه لن يستطيع أن ينسى ماضيها، يغضب وينهرها: هل تظنين نفسك العذراء مريم؟! أنتِ عاهرة. تطرده وينتهي الفيلم به حائرًا تائهًا. يذهب إلى الكنيسة ليعترف، وكما بدأ الفيلم ينتهي بفوتو مونتاج تتقاطع فيه صور لقاءاته الجسدية بالفتاة مع صور التماثيل الكنسية للعذراء والمسيح الذي تثخن جسده الجراح. وفي لقطة عابرة يقبل الشاب صليبًا فتسيل الدماء من فمه. ويستمر الفوتو مونتاج «مثل مشاهد البداية» صامتًا لمدة دقائق مع مختارات من موسيقى الروك والجاز التي يحبها سكورسيزي.
تقريبًا، كل مقومات سينما سكورسيزي اللاحقة موجودة في هذا الفيلم، ما يثبت، مرة أخرى، الرأي القائل بأن الفنان عادة ما يقدم عملًا واحدًا طوال حياته، بتنويعات مختلفة!
نيويورك، وبالتحديد شوارع نيويورك الفقيرة في الأحياء الإيطالية، التي شاهدناها بعد ذلك في أعمال مثل «سائق التاكسي» و«نيويورك نيويورك» و«الشوارع الخلفية» و«عصابات نيويورك» وغيرها.
الشبان الضائعون الذين على بعد خطوات من حياة الإجرام والمافيا، هذه الحياة التي تتجاذبها إغواءات المال والمتعة الحسية من ناحية، وشبح السقوط والموت والشعور بالذنب من الناحية الأخرى. الدين، وبالتحديد هذا الشعور الكاثوليكي الغامر بالخطيئة وضرورة التكفير بالدم. البراءة المعذبة بين الطهرانية والعنف، التي يمثلها شاب هو «الأنا الأخرى alter ego» لسكورسيزي نفسه: هارفي كيتل، ثم روبرت دي نيرو لاحقًا، وأحيانًا دانيل داي لويس وليوناردو دي كابريو. هذا التجاذب بين البراءة والروحانية من ناحية، والاستغراق في العنف والملذات سيستم مسيرة سكورسيزي بشكل عام، أحيانًا داخل الفيلم الواحد، وأحيانًا من خلال التنقل بين أنواع مختلفة من الأفلام: الروحانية في «الإغواء الأخير للمسيح»، و«زمن البراءة» و«كوندون» مثلًا، في مقابل العنف في «الرفاق الطيبون»، و«كازينو» و«عصابات نيويورك».
المرأة التي تشغل الهامش والمحرك والمؤثر على حياة الذكر، والتي تتسبب غالبًا في سقوطه، ليس لعيب فيها أو خطأ ترتكبه، وإنما بعدم قدرة البطل على قبول تناقضاته، ومفهومه المضطرب عن المرأة، ومتطلباته النفسية، غير القابلة للتحقق في الواقع منها.
أسلوب الإخراج المتحرر من التقاليد الهوليوودية، والأقرب إلى السينما الأوروبية، خاصة الواقعية الجديدة في إيطاليا، والموجة الجديدة في فرنسا، كما يظهر في التصوير الخارجي في الشوارع وأداء الممثلين الطبيعي «الارتجالي أحيانًا»، والمونتاج الذي يعتمد على القطع الحاد.
الشخصيات المركبة التي تتجاذبها المتناقضات، والتي لا يملك المشاهد سوى أن يخشاها، وهو يحبها، أو يحبها، بالرغم من إدراكه لشرها.
حب السينما، والإحالات الدائمة لأعمال فنية أثرت في سكورسيزي، ولأنواع بعينها، على رأسها الويسترن وأفلام العصابات والموجة الجديدة الفرنسية.
الذائقة الموسيقية الرفيعة والمميزة، وبالأخص الموسيقى الشعبية pop music والجاز والروك. النقد غير المباشر لثقافة العنف الأميركية، من حرب فيتنام في «سائق التاكسي»، إلى المافيا والعصابات في العديد من الأعمال، والعودة لجذور هذا العنف في القرن التاسع عشر في «عصابات نيويورك» وبداية القرن العشرين في أحدث أعماله «قتلة زهرة القمر» الذي يتناول الوقائع الحقيقية لمؤامرة التطهير العرقي لأفراد قبيلة الأوساج من السكان الأصليين.
يقول سكورسيزي، نقلًا عن كتاب «مسراتي كسينمائي» «مطبوعات الفن السابع- وزارة الثقافة السورية- ترجمة فجر يعقوب- 2007»:
«عندما أصنع فيلمًا أرغب في تفجير مفهومَي الزمان والمكان، ومن خلال ذلك أحاول أن أكتشف أشكالًا سردية جديدة، وأن أبتعد عن دراما القرن التاسع عشر التي تعتمد على بناء القصة في ثلاثة فصول».
منذ «من ذا الذي يقرع بابي»، يظهر هذا المفهوم المتحرر للسرد، حيث تخلو القصة من المواقف والأحداث الدرامية الحادة، وتتدفق بواقعية، من خلال تراكم التفاصيل، لا الأحداث، وينتهي الفيلم، على عكس معظم أفلام الحب، بالفشل والعودة إلى نقطة البداية. ومعظم أعمال سكورسيزي ترصد رحلة سقوط الفرد «أو الجماعة» في مستنقع الشر والطبيعة البشرية الرديئة، ولكن هذا السقوط نفسه، بالمفهوم الديني، هو رحلة وعي، وتكفير، وتطهر، وصولًا إلى الأسمى.