فاني هاو
ولدت لاريسا شيبيتكو في شرق أوكرانيا عام 1938. كانت والدتها معلمة مدرسة، وكان والدها مُحاربًا في الحرب العالمية الثانية، ترك أسرته وغادر. وقامت والدتها بتربيتها هي وشقيقيها بمفردها، وفي اللحظة التي تخرجت فيها لاريسا من المدرسة، كانت في طريقها إلى موسكو لدراسة الإخراج السينمائي. كانت في السادسة عشرة من عمرها وواثقة من موهبتها.
دخلت معهد جيراسيموف للتصوير السينمائي «VGIK»، حيث كان أندريه تاركوفسكي حينها لا يزال يدرس. كانت الحرب محفورة بشكل دائم في أذهان أطفال السوفييت، الذين شهدوا فظائعها أو عاشوا تأثيراتها. وبحلول وقت الذوبان الثقافي الذي بدأ بعد وفاة جوزيف ستالين في عام 1953، أصبحوا قادرين على التعبير عما رأوه وعاشوه في السينما والأدب، خارج إطار السياسة وعلم النفس.
وجدت شيبيتكو في معهد السينما، مُعلمها، في ألكسندر دوفجينكو، وهو شخصية بارزة في السينما السوفيتية المبكرة. تقدم الأفلام الواقعية التي تم إنتاجها في جميع أنحاء أوروبا في فترة ما بعد الحرب لمحة عن الوقت الذي سبق قدرة النساء على فعل الكثير. ما زلنا نقلب الخليط ونهز المكنسة ونغير الملاءات عن طريق قلبها. «اختفى آخر الأطفال الذين شهدوا هذا تقريبًا». لكن شيبيتكو كانت تتجه نحو المزيد.
تم تكريمها والاعتراف بها من أول فيلم طويل لها، وهو فيلم مشروع تخرجها، Heat لعام 1963. وواصلت إنتاج ثلاثة أفلام روائية طويلة أخرى، وهي Wings لعام 1966، وYou and I لعام 1971، وThe Ascent لعام 1977، بالإضافة إلى فيلمين قصيرين للطلاب، وجزء من فيلم متعدد القصص، وفيلم للتلفزيون. تتمتع أعظم أعمالها بعلاقة حميمة مذهلة: Wings يحكي قصة طيارة مقاتلة سابقة، كانت في يوم من الأيام نجمةً ساطعة، والآن أصبحت باهتة بسبب عودتها إلى الأرض العادية كمديرة مدرسة.
فيلم «The Ascent» هو حكاية في زمن الحرب، حيث تلقي مناظرها الطبيعية الشتوية الصارخة معاناة شخصياتها في ارتياح رهيب. في كلتا الحالتين، يتخلل بياض الثلج والغيوم محنة الشخصيات البشرية.
كما أن لفيلم «The Ascent» طابع مؤثر بشكل خاص لرمزيته المسيحية. حيث ظلت الممارسات الدينية المشتقة بشكل كبير من الكنيسة الكاثوليكية الشرقية في أوكرانيا تحت الأرض بعد أن أغلق ستالين الكنائس. ولا تزال بقايا المسيحية تظهر، مبهمة ومحطمة، في خلفيات العديد من الإنتاجات السوفيتية بعد الحرب. يمكنك أن ترى هذا حتى في أعمال صانعي الأفلام الأكثر علمانية، في الثمانينيات. مثل شيبيتكو، التي وجدت في وقت لاحق من حياتها روحانية تميل نحو الاتجاه الصوفي، ولم تعتبر نفسها متدينة.
تزوجت شيبيتكو من المخرج العظيم إيليم كليموف الوسيم صاحب البشرة الداكنة وطويل القامة «يُصنف فيلمه Come and See، مثل The Ascent، من بين أفلام الحرب العظيمة» وأنجبت ابنًا، أطلقت عليه اسم أنطون. كانت تعاني باستمرار للتوقف بسبب المرض والحوادث، عانت من التهاب الكبد أثناء انتاج فيلم «Heat»، وأحيانًا تصبح مريضة جدًا لدرجة أنها تنقل بنقالة؛ وأثناء تصويرها الفيلم القصير «The Homeland of Electricity» لعام 1967، أصيبت بجروح خطيرة في عمودها الفقري بسبب السقوط، لكنها لم تتردد في الذهاب إلى أبعد الحدود مع ممثليها وطاقمها. صورت فيلمها الأخير في طقسٍ قارس البرودة. كان لدى شيبيتكو خوف مستمر من الموت جعلها تؤمن بالخرافات والرؤى. توفيت عن عمر يناهز الحادية والأربعين في حادث سيارة.
قصة فيلم «The Ascent» المبنية على رواية «Sotnikov» لعام 1970 لفاسيل بيكوف، هي قصة بسيطة، قصة لجميع العصور: تروي انفصال اثنين من الثوار السوفييت عن وحدتهم، حيث يضيعان ويتعرضان للثلج والرياح. يبدأ الفيلم في حقل أبيض فارغ يتكشف ببطء إلى مجموعة من الجنود، الذين ينهضون على أقدامهم، حاملين أمتعتهم معهم. وسرعان ما بدأت مخاطر القصة: تتطاير طلقات النار وترن مثل الأجراس. يسقط الشعب ويهرب. يستدير أحدهم ويطلق النار ويضرب شخصًا ما بينما يتسلق الباقون نحو التلال والغابات. بعد هذا الانسحاب، يغادر ريباك «فلاديمير جوستيوخين» وسوتنيكوف «بوريس بلوتنيكوف» بحثًا عن الإمدادات والقوت.
ريباك، الأكثر صرامة وقوة بينهما، يعرف مكان وجودهما، ويتبعه سوتنيكوف، الأضعف. يذهبون إلى منزل يتذكره ريباك بفضل وشغف المرأة الموجودة فيه والليلة التي قضاها معها. أصبح مكانه حطامًا الآن، خرابًا، والسرير مكسورًا تحت الأنقاض. ريباك رجل لطيف يحب الحياة كشيء يكون تحت سيطرته. بينما يخاف سوتنيكوف من العالم. يأكلون معًا التوت المجفف من كفوف أيديهم.
يمشون عبر الثلوج المتزايدة باستمرار نحو المنازل الأخرى. في إحدى المرات، صادفوا رجلًا عجوزًا قد باع نفسه للنازيين، وهي زيارة أصيب بعدها سوتنيكوف في ساقه بطلق ناري. في اليوم التالي، اقتحموا منزلًا ووجدوا ثلاثة أطفال جائعين ينتظرون عودة والدتهم إلى المنزل. إنها تعد الطعام لهم. هي امرأة عنيفة وعدائية لكنها تسمح لهذين الثوار بالاختباء في مكان ما في أعلى منزلها، وعندما يعلم الألمان بذلك يأتون بالصراخ والبنادق. ويتم احتلال النازيين الهمجيين للمنزل بسرعة وبشكل شنيع، ويتم سحب الأم من أطفالها، وإلقائها على عربة مع الجنديين ونقلها إلى معسكر تحت سيطرة ألمانيا. وتتلاشى صرخات الأطفال في الخلفية. «يبرز البحث اللافت لشيبيكتو في الفيلم عن مصدر الشر والسعي إلى رؤية بصيص من الواقع الإلهي الذي لم يتم القضاء عليه بعد».
في محطتهم الأخيرة، يتعرض سوتنيكوف وريباك لمتعاون محلي مع الألمان، وهو مسؤول عسكري تظهر على وجهه ابتسامة فاحشة تشير إلى ساديته. يركز انتباهه على سوتنيكوف الذي يرفض التعاون معه. على عكسه، ريباك الذي كان مستعدًا للقيام بأي شيء لإنقاذ نفسه. يتم إحضار الأدوات الجراحية لاستخدامها على سوتنيكوف، ويشير هذا المشهد المروع للتعذيب كما يستحضر ذكرى وفاة كل ضحية تجاوزت حتى الآن نمط التاريخ لتظل بريئة.
رأيي حول فيلم «The Ascent» للمخرجة لاريسا شيبيتكو. يتناول الفيلم بحثًا دؤوبًا من قبل شيبيتكو لمصدر الشر، وفي الوقت نفسه، يبحث عن «بصيص الواقع الإلهي» الذي لم يُباد بعد. أتخيلها بجانب أدواتها الضخمة في صناعة الأفلام، وهي تستخدمهم للتعبير عن فهمها ومعناها للأجساد والوجوه والبيئة المحيطة بها، وهذا يعكس دافعها في مواجهة التعقيدات الإنسانية. بينما يقابل لطف ريباك غير المحسوب في محاولة لإبقاء رفيقه على قيد الحياة غضبه وحسرة قلبه بعد أن حاول الانتحار وفشل. لقد أصبح يشبه أحد شخصيات أفلام إنغمار بيرغمان المحبوبة ذات الحظ المأساوي.
في فيلم «The Ascent»، تسرد شيبيتكو الأحداث من منظور الدهشة، وتعمل الكاميرا هنا كأداة لتوجيه السؤال: ما الذي يجري؟ إنها تستخدمها كأداة للكشف عن الويل الوجودي المشترك للارتباك الأخلاقي في زمن الحرب.
في النهاية، تم سحب سوتنيكوف وريباك إلى قبو مظلم وتركا هناك. يتبعهم ثلاثة سجناء آخرين، الرجل العجوز والأم التي أسروها سابقًا، وفتاة يهودية شابة، وفي هذا الثقب الأسود، يكتسب الخمسة سمات مألوفة بشكل غريب، لأنها تستحضر الصور التي رأيناها. أفكر في شخصيات رامبرانت التوراتية المظلمة، وملامحها غير الواضحة، ولقطات المخيمات في يوم التحرير، ووجوه مظللة وعيون مليئة بالأمل المرير. ترى شيبيتكوأن شخصياتها وتصورها، ولا سيما وجوههم، كتكرار في تقليد اللوحات الدينية والأيقونات وحكايات العجائب والشعر.
تعرض سوتنيكوف لفقدان الكثير من الدم بعد إطلاق النار عليه وتعذيبه في الزنزانة. ولكن تظهر على وجهه لمحات من التأرجح بين الوعي المدنس والمقدس: إحداها وهو يقرع الجليد من الأغصان بعصا، والآخر حيث ينظر إلى السماء وهو على الأرض الثلجية. وفي كلتا الحالتين، فالسؤال المطروح هنا: حول ما إذا كان الإنسان يستحق الإنقاذ، ولماذا؟ وقد تحول وجه سوتنيكوف إلى دائرة لحم سقطت في الثلج، وتحول وجهه إلى شفاه وعينين وفم، وكأنه كائنًا فضائيًا جاء من السماء، أو وكأنه كان جنينًا، لا نهائي ملتصق بالوقت. تعبيره يوحي بأنه قد لاحظ شيئًا من الآفاق. وتصف مقاومة سوتنيكوف للسلطات التي تسعى إلى كسر إرادته بشكل تدريجي مفهوم التضحية «عند اختيار شخصية سوتنيكوف، سعت شيبيتكو للعثور على ممثل يشبه بالتحديد صور المسيح».
تدور أحداث فيلم «The Ascent» في بيلاروسيا، موقع الإبادة الجماعية التي نفذتها النازية. كان التعاون منتشرًا من أجل البقاء على قيد الحياة، وكانت المذابح النازية للفلاحين واليهود متكررة. عاشت شيبيتكو طفولتها في هذا العالم المعقد المرير. ينتقل فيلمها بين أعمال تحديات البقاء على قيد الحياة وسؤال جوهري آخر وهو: لماذا نعيش في مثل هذا العالم؟ تدور أحداث «The Ascent» حول أنواع مختلفة من الثلج بقدر ما يتعلق بأنواع مختلفة من التجارب الدينية. وفي أحداث الفيلم، لا يوجد أي طريق مستقيم يتم العبور من خلاله وهذا بسبب أن الثلج قد طمس تقريبًا كل العلامات الموجودة على الطرق أو على أماكن التوقف. فالأماكن التي وقعت عليها تلك الأعمال إما تم تدميرها بالكامل أو على وشك أن تكون كذلك.
هناك متلازمة تُسمى متلازمة الجليد البصري، وهي حالة يتساقط فيها نقاط بيضاء بلا توقف في جميع أنحاء رؤية الفرد، ويمكن مقارنة هذا «الثلج» بالثلج الذي نراه على الشاشات التناظرية. كل ما يمكنك رؤيته، يمكن العثور على وجه المسيح بسهولة مثل شكل شجرة، صورة تتبع النظرة السريعة، وتنظمها في الوجه الفارغ الذي نعرفه من الرسم والفيلم. بطريقة مماثلة، يبحث المشاهد في الصور المحظورة والمغطاة بالثلوج لفيلم «The Ascent» بحثًا عن علامات الحياة والمعنى. طوال الفيلم، هناك آثار للمسيح، والاستشهاد الشاحب، والعدمية الخالصة. لا شيء يأتي لإنقاذ أو تنوير الجنديين. وجوههم وأفعالهم هي تلخيص للوجوه والأفعال التي حدثت عبر التاريخ.
عندما شاهدت هذا الفيلم لأول مرة، في لندن في تسعينيات القرن العشرين، كنت لا أزال مفتونًا جدًا بالكثير من الثقافة الروسية والسوفيتية: شعرها ورواياتها وإصلاحها الاجتماعي وملحنيها وجهدها الدؤوب الذي يقودها إلى الحقائق الأبدية. لقد فكرت في الغرابة الجغرافية لكوني على قمة العالم، بما في ذلك العديد من المناطق الزمنية والتواريخ العرقية. لا أعرف لماذا، لكن هذا الشغف جاءني في سن مبكر لدرجة أنني تخصصت في التاريخ الأوروبي في الكلية وركزت على روسيا الثورية. قد يكون ذلك بسبب انضمام والدي إلى الجيش في عام 1943 ورحيله لمدة عامين ونصف، وعاد معجبًا بالسوفييت الذين قابلهم أكثر من البريطانيين.
كانت شيبيتكو هناك في موقع تصوير فيلم «The Ascent» في أكثر الأيام بردًا لتصويره، على الرغم من أنها كانت مريضة في العديد من الأحيان. حيث كان التصوير في البرد مرهقًا، لكن ممثلينها وطاقمها كانوا هناك لمرافقتها في محاولتها لتفسير الوحشية التي اجتاحت العالم خلال الأعوام الأولى من حياتها. وقالت شيبيتكو: «من المؤكد أن الانطباع بوجود كارثة عالمية قد ترك بصمة لا تمحى في عقل طفولتي».
يقول البعض إن الرب مات في الحروب النابليونية، في يينا؛ بينما يقول البعض إن فريدريك نيتشه وجه الضربة القاضية؛ ويقول البعض إن الرب مات في أوشفيتز. في بعض الأحيان، نرسم على حجر أو زجاج صورة قنبلة نووية، أو دخان النابالم، ولكن يؤلمنا كثيرًا مواجهة كل هذا. تدور أحداث فيلم «The Ascent» في عالم فاسد ومظلم حيث لا مفر من وجود هذه الآفات، لكن الوجود الثابت لتأثير المسيح هو أكثر ما يذهلني في هذا الفيلم. حيث إنه يظهر الشعور بالروح الإلهية وجودً ثابتًا على هامش الإطار، على الرغم من الكآبة والتعذيب وعدم الإيمان المنتشرين في السياق العام للفيلم. وهو أثر متبقي مثل أثر ما بعد الولادة، حيث إن ابتسامة أحد الأطفال في الفيلم تعد البهجة الوحيدة التي نلمحها.
لم يمت المسيح خلال عيد الصعود، الذي يبدو لي أنه احتفال بالتحرر من الأرض: فيسوع يدور حولنا، حتى أنه يتفقد الموتى تحت الأرض ليطمئن عليهم، قبل أن يحوم بشكل مذهل فوق أصدقائه ثم يختفي في الكون. الضوء والثلج في فيلم «The Ascent» مماثلين للضوء والسحب في فيلم «Wings». وهم يشيران إلى استمرار الوعي في المكان بأكمله. العقل البشري والغلاف الجوي يعرفان شيئًا واحدًا، وهو الارتقاء والصعود.
لكن الصراع على الأرض هو الجانب الأكثر إثارة للرعب في فيلم «The Ascent». حيث تشرق الشمس على الأرض والرجل الجالس على المكتب الذي ينظم على سطحه أدوات التعذيب، وهي الأدوات اللامعة التي يستخدمها الأطباء لإجراء العمليات الجراحية في جميع أنحاء العالم. مثالية الأسير وتحديه يجعلان المحقق يبتسم فقط. عندما يسأل السجين المحقق عن حياته قبل الحرب، يضحك السجين على إجابة المحقق،«كنت مثلك».
المصدر: criterion