تغريد العتيبي
هو صنف من قصص خوارق الطبيعة الإبداعية، وخاصة ما يضم الغرابة في أطيافها، وغالبًا ما تكون في قوالب الرعب. تشكَّلت قصص الأشباح كصنف في حد ذاته من القوطية كالصنف الأم، حيث إن روايات القوطية الكلاسيكية لا تكاد تصف قلعة دون شبح، حتى لو كان عنصرًا جانبيًّا أو أسلوب إخافة، فالغالب جميع قلاع وكاتدرائيات القوطية تحوي في زواياها أشباح وأرواح الأجيال التي سكنتها، وتلك اللوحات التي تصف الماضي المتحركة وصور الموتى «الحية». لكن «القصة الشبح» تفرَّع في بدايات القرن العشرين إلى تكوين تداخلات خاصة به -نوعًا ما- كقصص الأشباح الأخلاقية والكوميدية وغيرها من القصص ذات الأهداف والرسائل. ونعني هنا قصص الأشباح التي ترتكز فعليًّا في ترميز الشر وغيره على الشبح كشخصية، عوضًا عن عنصر إخافة ورعب، مثلًا في الروايات الواقعية كروايات ديكنز. لذلك نجد العديد من قصص الأشباح تتخطى الثقافات والحضارات حاملة مختلف الأهداف والأساليب، فمنها من يعتمد الأهداف الدينية وغيرها الخرافات والحكايات الشفهية الشعبية، وقصص الأشباح الحديثة.
فتعتمد تلك القصص وقراءاتها على المساحات المسكونة بالأرواح، وما دلائلها المكانية، سواء حرفيًّا أو مجازيًّا، عوضًا عن شك الأشباح وتصويرهم كشخوص كبار في السن في الدُّور المهجورة، أو الأطفال المنطوين في الزوايا، أو النساء العالقات في الجدران. فهي بشكل حرفي عودة «أو ارتباط بشيء»، لكن المغزى دومًا: لماذا، وما هو الشيء، وما قد يعنيه الفعل أو المادة، وكيف صور الشبح. فأحيانًا يكون ترميزًا لعدة أفكار، وليست فقط عودة روح أو شخص أو عاطفة شديدة واحدة كالغيرة والحقد، وإنما في بعض أعمال القوطية، وقصص الأشباح في القرن العشرين، قد تحول الشبح إلى رمز لكمية العذاب، أو الألم الذي أحاط بالمساحة أو المسكن حيث صورت الإقطاعيات واللوردات كمساحات وحشية يسكنها شبح العبودية. لكن التحول إلى الرأسمالية قد صوَّر تلك المساحات الضيقة مثل غرف الفنادق والمساكن المؤجرة على الطرقات بأنها مساحات «مهجورة»، وتقطنها عواطف متناقضة وربما شبح العزلة والنسيان والوحدة. وتطور ذلك إلى شبح المال بذاته ليحاوط تلك المساحات معطيًا تلك القصص قراءات اجتماعية واقتصادية لها دلالات على اختناق بعض المستهلكين العاجزين، بما يحاوط تلك المساحات من جشع شبح الرأسمالية الذي لا يرحم. ما جعل الشبح كعنصر قوطي يتحوّل من ترميزات ودلالات دينية في القوطية الكلاسيكية إلى البوح بقضايا ومشكلات الحداثة والرأسمالية.
لكن بالتزامن مع تلك التصويرات والتحوّلات الشبحية، فقد صاحبها الصنف الكوميدي والهزلي الذي عادة ما يبرز كمنتجات رعب، أو أزياء بسيطة للأطفال، كالرداء الأبيض الكلاسيكي في موسم الهالوين أو في تكوين صنفها الخاص العائلي كفيلم «بيتلجوس» الأيقوني، الذي صدر عام 1988 للمخرج الشهير في القوطية والغرابة تيم بورتون. فقد ألهم الفيلم عديدًا من الدراسات النقدية التي ما زالت تتحدث عن الدلالات الاجتماعية في الفيلم بالعودة إلى السياقات المحيطة في أمريكا في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. لكن الفيلم بطبعه الهزلي لا يخلو من الرعب وتصويرات العنف. فهو عوضًا عن تصوير الشبح، قد قدم صورًا لأشباح أخرى مجازيًّا في تصوير العديد من الموتى في «ما بعد الحياة»، في تضمين لقساوة طريقة موتهم، أو العنف الذي تعرضوا له. وكأنما شبح الحياة البشرية القاسية أو العنيفة قد تسرب إلى مسكن «بيتلجوس» في تلك المساحة التي يقطنها «ما بعد الحياة».
لكن صدى ذلك التعقيد يظهر في أعمال قد صوَّرت الوحش كعنصر مريب ومشبوه، فلا يمكن للقارئ أو المشاهد أن يجزم ما إذا كان المكان مسكونًا بالفعل. وهذا أصبح الطريقة الأكثر ملاءمةً لتصوير الحالات النفسية للشخصيات مثل الهيستيريا والجنون وحالات الخوف والرهبة الشديدة وغيرها من العواطف التي تهز سيطرة العقل والمنطق، فتقدم عدة صور ومآسٍ من عدم «التواصل» بين تلك الشخصيات وغيرها في أفلام الرعب وغيرها، ما قد يؤول بهم الحال إلى التعذيب أو الوصف بالجنون التام «ما إذا كان المكان مسكونًا بالفعل»، فتأخذ الصنف إلى تصويرات المصحات النفسية وغيرها. فقد تواجدت بأشكال مختلفة في مواسم عدة من المسلسل الشهير «قصة رعب أميركية».
وتخطت الأشباح عادةً إلى الكتابات النسوية في تصوير الحالات النفسية لدى النساء، مثل «اكتئاب ما بعد الوﻻدة» الذي سُطِّر في روايات عدة خطَّ وحدةٍ وألم تلك النساء في حالات مختلفة من الفقر والحروب والعزلة وغيرها. لعل أشهر تلك الأمثلة هي القصة القصيرة المنشورة عام 1892 بعنوان «ورق الجدران الأصفر» للمؤلفة شارلوت بيركنز غيلمان، وهي قصة تسطر حكاية تدهور الحالة النفسية لامرأة أُجبرت قسرًا على البقاء في عزلة «للاستشفاء»، في بيت ريفيّ بعيدًا عن عائلتها، منعزلةً ومقفلةً في غرفة ذات جدران صفراء، حيث مع الوقت تبدأ في رؤية وجه امرأة أخرى محبوسة خلف ورق الجدران الأصفر، تريد الهروب فتحاول تحريرها. وهي ما أراده مجتمع القرن التاسع عشر من النساء بألّا يكنّ إلا أمهات معزولات اجتماعيًّا ومنغلقات، بحيث أي نقاش يبعدهن إلى منزل ريفي في الخلاء، وغرف صفراء محفوفة بالنفاق والقمع والوحدة.
تلك الأشباح إذن هي عودة، ليست فقط لشخوص وأرواح، بل تراكمات القمع والآلام بحيث تصبح صوتًا «يسكن» المساحة ويحتلّها ويعتصرها، ليخلق منها مساحة وحشية.