ترجمة: شيماء بنخدة
وجه الطفل يثير فينا استجابات متضاربة. نحن نتعجب منه بسبب خصائصه الفريدة بالفعل ولكنها طفولية على وجه التحديد ومن هنا نجاح «ميكي روني Mickey Rooney» وانتشار النمش على وجوه النجوم الأميركيين الشباب. لقد وَلَّت الآن أيام «شيرلي تيمبل Shirley Temple»، التي أطالت جمالياتها المسرحية والأدبية والبصرية الخاصة دون داع؛ لم يعد الأطفال في السينما يشبهون الدّمى الصينية أو تمثيلات عصر النهضة للرضيع يسوع. لكن الغموض مازال يخيفنا، ونريد أن نطمئن عليه في وجوه الأطفال؛ نحن نطلب من هذه الوجوه دون أن تعكس مشاعر نعرفها جيدًا لأنها مشاعرنا. نطلب منهم علامات التواطؤ، وسرعان ما يصبح الجمهور مبتهجًا ويبكي عندما يظهر الأطفال مشاعر ترتبط عادة بالكبار. ونحن بالتالي نسعى إلى التأمل في أنفسنا فيها: فذواتنا، بالإضافة إلى البراءة والحرج والسذاجة التي فقدناها. هذا النوع من السينما يحركنا، لكن ألسنا في الواقع نشعر بالأسف على أنفسنا؟
مع استثناءات قليلة جدًا مثل فيلم «فيغوس زيرو فور كونداكت Vigo’s Zero for Conduct» لسنة 1933، الذي تسوده السخرية، تلعب أفلام الأطفال بشكل كامل على غموض اهتمامنا بهذه الكائنات البشرية المصغرة. لنفكر في الأمر، هذه الأفلام تتعامل مع الطفولة على وجه التحديد كما لو كانت مفتوحة لفهمنا وتعاطفنا.
إنها مصنوعة باسم التجسيمية Anthropomorphism». «حدث في أوربا It Happened in Europe» فيلم لسنة 1947 ليس هو الآخر باستثناء عن هذه القاعدة. بل على العكس تمامًا: يتلاعب المخرج المجري «جيز رادفاني Géza Radvanyi» بهذه التجسيمية بمهارة شيطانية. لن ألومه على «ديموغوجيته» إلى الحد الذي أتقبل فيه العالم الذي يخلقه. لكن على الرغم من أن الدموع في عيني مثل أي شخص آخر، إلا أنني لا أستطيع منع نفسي من رؤية وفاة الصبي البالغ من العمر عشر سنوات، الذي أصيب برصاصة أثناء عزف «المارسييز» على الهارمونكا الخاصة به. مؤثر جدًا فقط لأنه يؤكد مفهومنا الراشد للبطولة. وعلى النقيض من ذلك، فإن عملية الخنق الفظيعة لسائق الشاحنة بعقدة من الأسلاك الحديدية تحتوي، بسبب الداعي المثير للشفقة وراءها «الحصول على قطعة خبز وقطعة من لحم الخنزير المقدد لعشرة أولاد جائعين»، على شيء لا يمكن تفسيره وغير متوقع له طابعه الخاص. الأصل في سر الطفولة غير القابل للاختزال. في المجمل، يعتمد هذا الفيلم بشكل أكبر على تعاطفنا مع الأطفال الذين يظهرون مشاعر مفهومة بالنسبة لنا.
تكمن أصالة «روبرتو روسيلسني Roberto Rossellini» العميقة في فيلم «ألمانيا، السنة صفر Germany, Year Zero» سنة 1947 في رفضه المتعمد اللجوء إلى أي من هذه المشاعر. التعاطف المرهف لتقديم أي تنازل للتجسيمية. يبلغ ابنه أحد عشر أو أثني عشر عامًا، وسيكون من السهل، بل وحتى الطبيعي، في معظم الأوقات أن يدخلها السيناريو والتمثيل إلى أعمق نقطة في ضميره. ومع ذلك، إذا كنا نعرف بعض الأشياء عن أفكار هذا الصبي ومشاعره، فليس ذلك أبدًا بسبب العلامات التي يمكن قراءتها مباشرة على وجهه، ولا حتى بسبب سلوكه، لأننا لا نفهمها إلا عن طريق الاستدلال والتخمين.
وبطبيعة الحال، فإن خطاب مدير المدرسة النازي هو المصدر المباشر لقتل الصبي لأبيه المريض و«عديم الفائدة» يجب أن يهلك الضعيف ليعيش القوي، ولكن عندما يسكب السم في كوب من الشاي، ننظر عبثًا في وجهه لأي شيء آخر غير التركيز والحساب. ولا، نستطيع أن نرى عليه أي علامة تدل على اللامبالاة، أو قسوة، أو حزن محتمل. نطق أحد المعلمين أمامه بعض الكلمات، وقد شقت هذه الكلمات طريقها إلى ذهنه وجعلته يتخذ هذا القرار: ولكن كيف، وبأي ثمن من الصراع الداخلي؟ ليس هذا هو ما يهم المخرج. إنه خاص بالطفل فقط. كان بإمكان «روسيليني» أن يتقدم لنا تفسيرًا لجريمة القتل فقط من خلال إسقاط تفسيره على الصبي وجعله يعكسه لنا. من الواضح ان جمالية «روسيليني» تنتصر في الخمس عشرة دقيقة الأخيرة من الفيلم، أثناء بحث الصبي الطويل عن علامة ما للتأكد أو الموافقة، وتنتهي بانتحاره ردًا على تعرضه للخيانة من قبل العالم. أولًا، يرفض مدير المدرسة تحمل أي مسؤولية عن لفتة التجريم التي قام بها تلميذه. عندما يساق الطفل إلى الشارع، يمشي ويمشي، باحثًا هنا وهناك بين الأنقاض؛ لكن الناس والأشياء يهجرونه الواحد تلو الأخر. يجد صديقته تلعب مع رفاقه، لكنهم يلتقطون كرتهم عندما يحاول الاقتراب منهم. إن اللقطات القريبة التي تتخلل هذا المسعى الذي لانهاية له لا تظهر لنا أبدًا أي شيء آخر غير وجه قلق، متأمل، وربما خائف، ولكن خائفًا من ماذا؟ من إجراء بعض المعاملات في السوق السوداء؟ من مبادلة السكين بسيجارتين؟ من الضرب الذي سيتلقاه عندما يعود إلى المنزل؟ المشهد الأخير فقط هو الذي سيعطينا فكرة استرجاعية عن الإجابة. والحقيقة ببساطة هي أن علامات اللعب وعلامات الموت قد تكون نفسها على وجه الطفل، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين لا يستطيعون اختراق لغزه.
يقفز الصبي على ساق واحدة فوق حافة الرصيف المكسور. يلتقط من بين كتل الحجر والفولاذ الملتوي قطعة من المعدن الصدئ يتعامل معها كما لو كانت مسدسًا. إنه يصوب من خلال ثقب في الأنقاض نحو هدف وهمي: فرقعة، فرقعة، فرقعة… ثم، بنفس العفوية المرحة بالضبط، يضع البندقية الخيالية على صدغه. وأخيرًا، الانتحار: يصعد الطفل إلى الطابق العلوي من المبنى الذي تعرض للقصف مقابل منزله. ينظر إلى الأسفل ويرى عربة نقل تحمل نعشًا وتأخذه بعيدًا، تاركة العائلة وراءها؛ وتبرز عارضة حديدية بشكل جانبي عبر الأرضية المدمرة، مثل الزَلاجَة ؛ ينزلق على مؤخرته ويقفز في الفراغ. جثته الصغيرة ملقاة على الأرض الآن خلف كومة من الحجارة على حافة الرصيف. تضع امرأة كيس التسوق خاصتها وتركع بجانبه. لتمر عربة في الشارع محدثة صوت قعقعة الجرذان. فتتكئ المرأة على كومة الحجارة ، وذراعاها معلقتان حولها في وضعية التقوى الأبدية.
ويمكن للمرء أن يرى بوضوح كيف تم دفع «روسيليني» إلى التعامل مع شخصيته الرئيسية بهذه الطريقة. وكانت هذه الموضوعية النفسية ضمن منطق أسلوبه. «واقعية روسيليني Rossellini’s realism» ليس لها علاقة بكل ما قدمته لنا السينما حتى الآن باسم الواقعية باستثناء أفلام «جان رينوار Jean Renoir». واقعيته لا تكمن في الموضوع بل في الأسلوب.
ربما يكون «روسيليني» هو المخرج الوحيد في العالم الذي يعرف كيف يثير اهتمامنا بفعل ما بينما يتركه في سياقه الموضوعي. وهكذا تتحرر عواطفنا من كل المشاعر، لأنها تمت تصفيتها بالقوة من خلال ذكائنا. نحن لا نتأثر بالممثل أو الحدث، بل بالمعنى الذي نجبر على استخلاصه من الفعل. في هذا المشهد، لا تكون الأهمية الأخلاقية أو الدرامية مرئية على سطح الواقع. ومع ذلك، لا يمكننا أن نفشل في إدراك أهميتها إذا حاولنا القيام بذلك. أليس هذا إذن تعريفًا سليمًا للواقعية في الفن: إرغام العقل على استخلاص استنتاجاته الخاصة حول الأشخاص والأحداث، بدلًا من التلاعب به لقبول تفسير شخص آخر؟