عصام زكريا
في حوار مع المخرج الراحل عباس كياروستامي على هامش مهرجان مراكش 2014، قبل رحيله بوقت قصير، سألتُه عن المعايير التي يمكن أن نحكم بها على جودة فيلم ما، في ظل فيض وفوضى المعلومات والآراء التي نعيش فيها، بحيث بات من شبه المستحيل أن يتفق الناس، حتى المتخصصين منهم، على جودة، أو رداءة، أو معنى فيلم ما.
بابتسامته الغامضة، مثل الموناليزا، تمهّل مخرج «طعم الكرز» و«نسخة غير أصلية» لثوانٍ، قبل أن يقول إنَّ المعيار الوحيد الذي يعول عليه هو الزمن، وأن العمل الفني يحتاج إلى ثلاثين عامًا لكي نحكم إذا ما كان جديرًا بالبقاء ، وإذا ما كان التقييم والاستقبال اللذان حظي بهما وقت عرضه، يستحقهما، أم لا.
لم أقتنع وقتها بهذا الرأي، الذي يعني أن نعلق أحكامنا على أي فيلم لعدة عقود، قبل أن نبدي رأينا النهائي فيه، لكن بمرور الوقت بدأتُ أفكر في المعنى الذي كان يقصده كياروستامي. إن الزمن فقط هو الكفيل بتنقية العمل الفني من الظروف والبيئة التي ظهر فيها «أي من شروط الزمن»، والتي تؤثر بالطبع على حكم الناس عليه، وأن العمل الفني، بمرور الزمن، لا يبقى منه سوى جوهره الأساسي، ما يجعل الحكم عليه أكثر صحة ودقة.
من الأفلام التي مرَّ عليها ثلاثة عقود، اكتسبتْ خلالها مكانة لا تبلى في قلوب وذكريات الكثيرين فيلم «آيس كريم في جليم» للمخرج خيري بشارة. وفي عدة عروض حديثة للنسخة المرممة من الفيلم «ضمن ترميم أعماله وتكريمه من قبل مهرجان البحر الأحمر» تبين أن «آيس كريم..» يحظى بمكانة كبيرة لدى أجيال متعاقبة من المشاهدين، لدرجة أن آخر عرض للفيلم جرى في سينما «زاوية» في القاهرة، في إطار أسبوع أفلام للمخرج، كانت القاعة ممتلئة بشباب في الثلاثينيات والعشرينيات، بجانب عشاق الفيلم من الذين تجاوزوا الخمسين والستين!.
أين يكمن سر «آيس كريم في جليم»؟ ولماذا يحظى بهذا القدر من المحبين من بين كل أعمال بشارة وأفلام التسعينيات؟
على عكس أعماله السابقة، كلاسيكية الطابع، محكمة البناء الدرامي، التي تتناول موضوعات اجتماعية جادة، مثل «العوامة 70»، و«الطوق والأسورة»، و«يوم مر ويوم حلو»، يبدو «آيس كريم..» عملًا ترفيهيًّا خفيفًا، وعلى أفضل تقدير، كعمل تجريبي، لا يخلو من بعض هلهلة في البناء، وبعض سذاجة في الكتابة، وبعض ارتجال في التنفيذ. لكن النظرة المدققة، المتعمقة، لعناصر الفيلم يمكن أن تكشف أن وراء هذا التجريب والارتجال والهلهلة وحدة عضوية متينة، تقوم على تعليق منطق الواقع ومنطق الأفلام، ونوع من التخلي عن الأفكار الجامدة، والتقاليد والقوالب الجاهزة، بحيث لا يمكن تصوُّر الفيلم إلا بالشكل الذي بدا عليه، لدرجة أن العمل قد يختل إذا غيَّرتَ شيئًا من هذه العناصر التي ربما كانت تبدو «ضعيفة» في عيون جمهور ونقاد عصره.
ويخبرنا تاريخ السينما دائمًا عن أفلام أُعيد التقدير والاعتبار إليها بعد مرور عقود، فتحولت حتى «عيوبها» إلى نقاط قوتها، كما حدث مثلًا مع «باب الحديد» ليوسف شاهين، الذي يعد الآن واحدًا من دُرر السينما المصرية، أو مع فيلم Vertigo لألفريد هيتشكوك، الذي عُدَّ من أضعف أعمال المخرج الكبير في زمن عرضه، والآن لا يُعَدُّ فقط من أفضلها، لكنه اختير أفضل فيلم في تاريخ السينما، في استطلاع مجلة «سايت آند ساوند» التي يُصدرها معهد الفيلم البريطاني.
يكمن سر «آيس كريم» ، كما أتصور، في هذه العناصر غير «التقليدية» نفسها، التي تعبر عن «تيمة» الفيلم الأساسية، وهي التحرر من عبء الماضي والحاضر، والبحث عن الذات، بعيدًا عن القوالب الجاهزة والأفكار الجامدة.
هذه التيمة هي جوهر الفيلم، ونواته الرئيسة، ربما لم تكن واضحة للبعض في زمن عرضه، ولكن لما انقشع غبار هذا الزمن بأفكاره السياسية وتقاليده الفنية وذوق جمهوره، تجلى المعنى أكثر وضوحًا: هذا فيلم «حر»، كما تقول أغنية عمرو دياب التي تتوسطه «أنا حر إني أطير وأرفرف، كلي تحدي وشوق وحياة. في شارعكو القاسي المتزخرف، أو في شارعنا أنا هصرخ لا». كلمات بسيطة، بريئة حد السذاجة، مثل صاحبها، سيف، الشاب الذي يعيش بين المتناقضات بأنواعها: الشرق والغرب، اليسار واليمين، الغناء القديم والحديث، الفقر المدقع والثراء الفاحش، الاستسلام للمغريات المادية، والنضال بهتافات صنعها الآخرون، وهو يرفض أن يتم تصنيفه، أو تجنيده، لأي من هذه القوى المتصارعة، ويبحث فقط عن كلمات سهلة، مفهومة، نابعة من مشاعره، ليعبر بها عن نفسه، ويغنيها.
يحتضن «آيس كريم..» كل هذه المتناقضات. إننا نضحك مع زيكو ونور، الأول رجل أعمال متسلق والثاني مناضل مقاهٍ ناصري. وننجذب إلى أدهم وزرياب، الأول لواقعيته الأرضية، والثاني لأحلامه المفرطة. نفهم درية، التي تتعامل مع الحياة كمعركة، ونحب آية، المتصالحة مع كل ما حولها.. وسيف هو القلب والمركز الذي تدور حوله كل المتناقضات، لكنه لم يعثر على نفسه بعد. إنه لم يزل طفلًا، لم يفطم بعد، عائشًا في حلم حضن الأم «الحلم الذي يطارده بفتاة الآيس كريم»، ولكنه يتألم ويعاني ويفشل، لكي ينضج، ويُطرد من الحلم أخيرًا، عندما يلتقي الفتاة وتهوي بقمع الآيس كريم على وجهه، ويتحرر أخيرًا، من طفولته أيضًا، ويعثر على صوته الخاص.
بمرور السنوات والعقود، يظل «آيس كريم…» فيلمًا شبابيًّا بمعنى الكلمة: يتحدث إلى كل جيل جديد عن أزمته، بين عالمين، وعن احتضان التناقضات، والهوية الهجينة، والتحرر من الطفولة، ومن عبودية اللحظة، والمادة، والإخلاص للضمير الداخلي، والذات.
يُجسِّد بناءُ الفيلم وأسلوبُ سرده وتصويرُه ومونتاجُه، كلٌّ بطريقته، معانيَ التحرُّر و«الرفرفة»، إذا جاز التعبير. يتدفق السرد سلسًا، دون تشديد على حدث أو فعل ما. كل المَشاهد، حتى عندما يتعرض سيف للضرب أو الخيانة أو السجن، تبدو مرحةً، خالية من «الميلودراميات» والمبالغات. تتجاور اللقطات الوثائقية للشوارع والناس إلى جانب اللقطات الفانتازية، الاستعراضية، التي تغني وترقص فيها الشخصيات. ويتنقل المونتاج بالفعل كطائر بين الأمكنة والأزمنة، دون الخضوع لمنطق الاستمرارية. أما الأغاني والموسيقى، التي تتخلل مسام كل لحظة من الفيلم، فهي تتدفق أيضًا بخفة، وسرعة، كطير نورس يتقافز حول الشاطئ، مثل الطيور التي تُحلِّق في آخر أغاني الفيلم.
لكن «آيس كريم…» هو أيضًا لعبة، وبهجة، للعين والأذن، مثل قطعة آيس كريم، تذوب في الفم بسهولة، ولذة، ولكنها سرعان ما تختفي تحت تأثير الحرارة، وتتحول إلى سيولة. وهذا أيضًا جزء من سرِّه وسحره: أنك لا تستطيع الإمساك به، ولا الاحتفاظ بمعناه، ولكنك ترغب دومًا في مشاهدته مجددًا.