د. وليد سيف
استنادًا إلى واقعة حقيقية كتبت وفاء بكر الفيلم السعودي الروائي الطويل «شيهانة» لقناة SBC، وأخرجه المصري خالد الحجر، وأنتجه الأردني البير حداد، وهو أحد الأعمال التي تدين الإرهاب، وبالتحديد من خلال الكشف عن الحياة داخل أراضٍ داعشية، يسيطر عليها المتطرفون، ويُطبقون فيها أساليبهم الرجعية القمعية المتزمتة على الرعايا الذين يعيشون حياةً بائسة قاسية تحت قبضة عنيفة.
سبق أن ظهر الإرهاب في أكثر من عمل درامي وسينمائي، كما أننا شاهدنا أكثر من عمل يتناول الحياة في أراضٍ تحت حكم الدواعش، لكن الجديد في فيلم شيهانة أننا نتابع فيه قصة امرأة قررت بكامل إرادتها أن تنتقل إلى هذا العالم مدفوعة بوهم كاذب بسبب ضعف شخصيتها ومحدودية وعيها وثقافتها.
لكن هذه السيدة تصطحب معها طفلتها، التي تشكل بنظرتها البريئة الصادقة الإطلالة الحقيقية على هذا العالم المزيف، وهي لا تكتفي بهذا بل إنها تقاوم الاستسلام لشروطه، وتتحمل كل ما تتكبده من عقاب صارم وتعذيب وهي مؤمنة تمامًا بأنه عليها أن تحافظ على هُويتها، ولا تسمح لهذا الحكم الجائر أن يطمس ملامحها ويمحو شخصيتها، فهو لا يكتفي فقط بإجبارها على ارتداء النقاب لكنه أيضًا يسعى لتعتيم شخصيتها وإغلاق أنوار الحياة عنها، فالنقاب هنا ليس مجرد اختيار أو مظهر خارجي أو غطاء للوجه والجسد، لكنه غطاء جاثم على النفس والروح.
يوظف المخرج خالد الحجر الأسلوب البوليسي وهو الأنسب لطبيعة الموضوع، فهو أقرب لعملية إنقاذ طفلة من براثن الجماعة الداعشية وذلك من خلال ما صوره الفيلم بما قامت به السفارة والسلطات السعودية من تحركات مخابراتية وعسكرية حماية لمواطنتها الصغيرة، كأي بلد مُتقدِّم متحضّر يحافظ على رعاياه ملبيًا نداءهم من أي مكان بالعالم.
يستخدم خالد الحجر الموتيفات والتفاصيل البوليسية منذ بداية الفيلم من خلال الحوار المقتضب المثير للقلق، والصورة التي تتضمن تكوينات وتفاصيل مثيرة للانتباه والتوجس، والزوايا التي تُوحي بالخطر من حين لآخر، هذا فضلًا عن الاستخدام المقتصد للموسيقى والمؤثرات الصوتية لتحقيق حالة من القلق والتوتر، لكن هذا الشكل البوليسي كقالب فني لا يتعارض مع القيمة الفكرية للفيلم وما يطرحه من قضايا، وما يعكسه من إدانة واضحة للفكر الرجعي المتزمّت وما يكشف عنه من خطورة تصديقه.
فقد حرص السيناريو على أن يتضمن جرعة كبيرة من المناقشة الفكرية لهذا التيار وكشف زيفه وخوائه، فلم يكتف المخرج بأسلوب الصورة الكاشفة والفاضحة لهذا الفكر المزيف، لكنه استعان كثيرًا بالحوار الذي كُتِب في معظم الأحيان بلغة فنية جيدة ومعبرة، لكنه في أحيان أخرى كان مباشرًا ومطوّلًا أكثر مما يجب، كما أن الحوار المكتوب لشخصية شيهانة أحيانًا ما كان يتجاوز مستوى عمرها الفعلي مهما كانت درجة ذكائها.
ومنها هذا الحوار الذي دار بينها وبين صاحبتها: «يقتلوني أو يضربوني ما حيقدروا يطلعوا الشيهانة اللي جوايا.. جيت شيهانة وحطلع من هنا شيهانة».. «أنتِ فكَّرْتي أن هذه الدولة سوف ترجعك للتاريخ الإسلامي اللي انبهرتِي بيه.. آخر شيء إنك جيتِي هنا وما لقيتِي التاريخ اللي تبغينه».. كان من الأفضل في رأيي أن يعكس سلوك شيهانة هذه القناعات الفطرية، دون أن تعبر عنها بهذا الأسلوب البليغ الذي يبدو أقرب لأسلوب المخرج أو الكاتبة.
يعد الفيلم من نوع الإنتاج المشترك، وهو الأنسب لهذا النوع من الأعمال الكبيرة التي تدور أحداثها في أكثر من بلد، وتتطلب مشاهدها اختيار الأماكن المناسبة بالتعاون بين أكثر من بلد، وبناء الديكورات اللازمة، فضلًا عن الملابس والإكسسوارات التي تم توظيفها في هذا الفيلم واقعيًّا وتعبيريًّا بأسلوب سليم، كذلك تحريك المجاميع بدقة، وإنجاز، مشاهد العنف والمطاردات والمعارك والحرائق واقتحام القوات التي حققها المخرج بإجادة وبأسلوب فني متقدم عبر المونتاج السريع والمزج بين اللقطات والحركة المتقنة، وتوظيف الألوان والإضاءة دراميًّا بما يتفق مع روح الشخصية أو بما يتفق مع الأجواء الدرامية، ما حقَّقَ للفيلم حالةً من المصداقية والتأثير القوي في الكثير من مواضعه.
هذا إلى جانب الاستعانة بعدد من الممثلين من بلدان عربية مختلفة منهم عبد الله الجريان، والفنانة ميسون الرويلي، التي لعبت دورَ أم شيهانة، وخالد صقر، وطارق النفيسي، والممثلين الأردنيين: أنور خليل، وجمال مرعي، ولينا عبدالغني، ومعتصم فحماوي. سوف تراهم يؤدون أدوارهم بأسلوبية متوحدة حتى وإن كان لبعضهم خبرات سابقة، والبعض ربما يظهر على شاشة السينما لأول مرة، على رأسهم بالطبع الطفلة ليان الشهري التي لعبت دور شيهانة، وأدَّت دورها ببساطة وتلقائية وإتقان، واستطاعت أن تعبر عن طبيعة الشخصية حركيًّا وصوتيًّا بطريقة مؤثرة، دون مبالغة أو ميلودرامية وبأسلوب طبيعي مقتصد، وبتطور مناسب مع مراحل الشخصية طبقًا لما مرت به من تجربة قاسية، لم تتمكن من تغيير هويتها لكنها بالتأكيد أضافت لخبراتها الحياتية ودعمت ثقتها بذاتها التي انعكست على أداء الممثلة الصغيرة.
كل هذا بفضل توجيهات المخرج وبناء السيناريو الذي أسس للشخصية منذ البداية وحدد ملامحها منذ مشاهدها الأولى، فهي لا تتقبل أي شيء دون أن تتفهمه وتستوعبه، هي طفلة ذكية محبة للحياة والفن وهي تمثل جيلًا أصبح أكثر وعيًا وإدراكًا للواقع، لهذا أمكنه أن يواجه وأن يحتفظ بهويته وأن يؤثر على من حوله، فـ«شيهانة» اسم عربي أصيل يرمز إلى أنثى الصقر الجميلة، فيعبر عن الأنثى الجميلة ذات الكبرياء والعزة، وهي من خلال أحداث الفيلم تمثل الأمل في مستقبل واعٍ وقادر على مواجهة الجهل والرجعية والتخلف.
على الرغم من الملاحظات السلبية على بعض حوار الفيلم فإنّه وبلا شك ينتصر للفن بالفن، ويقاوم القبح ومن يكرهون الحياة والحرية، فهو يحمل قيمة فنية وفكرية ورسالة شديدة الأهمية عبر مجموعة من الفنانين الذين اجتهدوا وأجادوا في عملهم.
توج الفيلم بجدارة بالجائزة الكبرى كأفضل فيلم عالمي في مهرجان الحسيمة الدولي بالمملكة المغربية، ونالت بطلته الطفلة جائزة أفضل ممثلة كما حصدت جائزة المونتاج منة جاب الله، ليقتنص شيهانة نصيب الأسد من الجوائز، التي ربما لن تنقطع عن هذا الفيلم الذي يستحق أن يراه كل مشاهد عربي، لينظر من عين الطفلة ليدرك خطورة التطرف، ويتعلم شجاعتها في المواجهة وحرصها على هويتها وحريتها وإيمانها بأن الله قد خلقنا أحرارًا نعيش الحياة، ولم يكن -حاشا لله أبدًا- يقصد أن يجعلها سجنًا أو مقبرة للأحياء.