د. محمد البشير
ليس مصادفة أن يمر تاريخ السينما بعددٍ من الموجات مثل «الموجة الجديدة» نهاية سنوات الخمسينيات الميلادية حين خرج جيل جديد لصناعة أفلامهم في فرنسا، وحفروا أسماءهم في تاريخ السينما مثل: فرانسوا تروفو، وجان لوك غودار، وكلود شابرول وغيرهم، ولأن طبيعة الأمواج متلاحقة، متعاقبة، فهذه الموجة الجديدة، ما هي إلا تعبير عن موجة تسبقها، فالأمواج تتلاطم، وتترك كل موجة بصمتها وصوتها، ولأن الشواطئ كثيرة أيضًا، فلا غرابةَ ولا تزاحُمَ في تكاثر الموجات؛ ففي الوقت نفسه خرجت موجة جديدة في بريطانيا، فلكل سينما موجتها، وإن تسمت بذلك أم لم تتسمَ، بل تُعيد تكوين نفسها عبر الأزمنة، مثلما حدث في الواقعية الإيطالية.
كانت تلك الموجات مُعبِّرة عن حالتها عقب الحرب العالمية الثانية، فلكل زمن طريقة في صناعة الموجة، وكذلك المكان، ففي الشرق كان لزاما من مجابهة ما يأتي من الخارج، وإعادة النظر فيما يجري صناعته في الداخل، مثلما حدث في السينما الصينية، وصناعة موجتها في مواجهة المد الغربي، والتايونية كذلك، والكورية مؤخرًا لتضع بصمتها فيما نشاهده، وهكذا الأمر في مشرق الأرض ومغربها من صُنّاع الأفلام، ورغبة كل قارة وأمة من حكاية قصتها بلغة هذا العصر، وبسهولة المشاركة في صناعة الأمواج، ما دام محيط السينما يتسع للجميع.
قوة السينما
لا شك أن معرفة من سبقك تعينك على ركوب الأمواج، واختصار الطريق، وصناعة طريقتك في آلية اعتلاء الأمواج، وترك موطئ قدمك في محيط السينما الشاسع، فلكل شاطئ أمواجه، بِعُلوِّها، وتفاصيلها الدقيقة التي لا يمكن أن تشابه أخرى.
السينما بما تمتلكه من قوة تجعل كل واحدٍ يطمع في صناعة موجته، وتخليد اسمه في هذا التاريخ الزاخر بالأسماء والموجات، فالتاريخ بوصفه زمنًا يتسع، والسينما بقدرتها على صناعة تجربة للصانع والمُشاهِد معًا، فتاركوفسكي يعزو قوة السينما إلى قدرتها على تقديم تجربة حية بخلاف أي فن آخر، فهي توسّع وتكثّف تجربة الفرد، لا تعززها فحسب! بل تمددها أيضًا، وهذه القدرة فاتنة لخوض التجربة، فكل فرد ما بين: «قلة» يصنعون، و«كثرة» يأملون في مشاهدة ما يستحق، وهذا يعود إلى الحاجة الإنسانية لمعرفة العالَم وفَهمه وَفقَ تعبير تاركوفسكي، فالسينما الوسيلة المعاصِرة الأكثر تعبيرًا لتقديم رؤيتك للعالم من خلالها، وتقاطُع المُشاهد مع ما يراه من خلال ما جاء من أجله، فهذا التقاطُع والتوافُق؛ هو ما يصنع الرابطة بين الطرفين؛ لتقديم المزيد، أو بترها والتوقف.
فهم المرحلة
لا بُدَّ من مواكبة الزمن، وركوب الموجة الصحيحة في التوقيت الصحيح، فهذا الوعي سيختصر المسافة، ويقيك من السقوط، فلكل مرحلة أدواتها، ولا يمكن استنساخ نجاح سابق؛ لوقت لاحق دون إدراك ما يحدث، فمرحلة تطور السينما من شأنها تمكين الصانع من أدوات أكثر، فبداية السينما كانت صامتة لظروف المرحلة، ودخلت الأصوات لتغني المشهد، وهكذا الألوان لتبعث الحياة، والتقنيات لتزيد سحر السينما، وسطوة الضوء في ظلمة الصالات، وكل ذلك يثري الصناعة، ويجعل الأمر أكثر يُسرًا في الصنع، وعُسرًا في إرضاء المشاهد الذي صار متطلعًا، وفي متناوله كل شيء.
زمن السرعة
كانت الأفلام طويلة.. طويلة جدًّا دون أن يمل المشاهد الذي يتخذ من السينما فسحة أسبوعية يقتطع فيها ثلاث ساعات وأكثر دون أن يمل، ولكن في زمن السرعة أصبحت الثلاث ساعات طويلة جدًّا، ويجري التحذير قبل الفيلم، بأن هذا الفيلم أكثر من ساعتين؛ ليعيد حسابَه كُلُّ من تردد في الدخول لفيلم بهذا الطول!
أذكر فور بث فيلم «Irishman» «الإيرلندي» لمارتن سكورسيزي عام 2019 على «نيتفليكس» من بطولة روبرت دي نيرو، وآل باتشينو، وجوي بيتشي، وكانت مدة الفيلم ثلاث ساعات ونصف الساعة، وكنتُ مستمتعًا بالفيلم لترقبي جديد سكورسيزي الذي ننتظره منذ زمن، وخاصة بعد تعثُّر إنتاج هذا الفيلم، لولا الدعم الذي حصل عليه من نتفليكس لخوض التجربة، ولحرص نتفليكس آنذاك على اسم كبير مثل سكورسيزي لينضم إليها، وكان النقاش حول الفيلم في نادي السينما بإدارة الزميل يونس البطاط في الأول من يناير 2020 بحضور مهتمين مختلفين باختلاف توجُّهاتهم، فكان فريق من محبي سكورسيزي متلهفين للحديث عن الفيلم، وقلة من مشاهدي نتفليكس جاءوا من أجل الإعلان عن مناقشة فيلم متاح المشاهدة، فكان تركيز استيائهم منصبًّا على طول الفيلم المبالغ به دون داعٍ «على حدّ تعبيرهم»، وكان تعليقي حول التناقض الذي أجده من متابعي المسلسلات التي مجموع حلقاتها أضعاف هذا الفيلم بكثير، والجلوس لمشاهدة حلقة تلو الأخرى دون مغادرة كرسي المشاهدة، وعدم قدرتهم على مشاهدة فيلم في ثلاث ساعات ونصف الساعة!
فهم الزمن
عتبت على نفسي بعدها؛ فَفهْم الفارق، وعدم الانحياز لما يتوافق مع ذائقتك بفعل الحنين الذي يتملَّك من فُتِن بتجربة سكورسيزي في «كازينو» و«الرفاق الصالحون» وأبطال «العرّاب»، فلكل زمن أفلامه، ومحطات جديدة لبناء مرحلة جديدة بأبطالها، وأجوائها، ولا بُدَّ مِن فَهم المرحلة، واللعب على أوتارها. ففي حوار للمخرج الإيراني عباس كيارستمي -ينقله أمين صالح- يقول: «نحن نعيش في زمن الـ SMS، رسائل الهواتف النقالة، وهذا سوف يُغيّر زمننا لأنه سوف يغيّر نمط أو عادة المحادثة. الجمل أصبحت مُوجَزة، مكثَّفة، وقصيرة. وأنت توصّل المعنى الذي تريد بشكل سريع جدًّا. بالهايكو، الذي يتألف من خمس كلمات إلى سبع، أنت تُجرِّد الشعر من زخارفه. إنه يدخل في صميم الموضوع، والناس سوف ينتبهون».
فهم سرعة الزمن، وأدوات المحادثة، ودخول مثل هذه في الأفلام التي نشاهدها بوصفها أدوات تخاطبية موجودة في حياتنا، وظهورها في الشاشة بوصفها أداة جديدة لم تكن، وبلغة جديدة لا تخلو من الإيموجي، وبِلُغة المرحلة، وعلاماتها، كل ذلك صار واقعًا وضرورة في هذه المرحلة، ولا بُدَّ من مخاطبة الجيل الجديد بلغته، فكيارستمي لم يتخلَّ عن شاعريته، ولكنه انصاع للون يناسب المرحلة يتمثل في «الهايكو»، وكان لزامًا فهم المرحلة أيضًا وعدم الانحياز لطول الفيلم؛ مقابل قِصَر يستطيع التبليغ دون مبالغة.
ركوب الموجة
لم يكن قبول نتفليكس في بداية الأمر واردًا لدى المخرجين، والكل يذكر رفضَهم دخول أفلامها للمنافسة في الجوائز الكبرى مثل «الأوسكار» و«كان»، مثل ستيفن سبلبيرغ وغيره، وكان الأمر واقعًا بالمشاركة والفوز بفيلم روما لألفونسو كوارون، وتوالي الفوز بأفلام أخرى، واستحواذهم على مزيد من مقاعد الترشيح كل سنة، ودخول كبار المخرجين الموجة مثل سكورسيزي.
إنّ مصلحةَ سكورسيزي في ركوب الموجة -رغم هذا العمر- خيرٌ من عدم المشاركة، ولو كان غير قادر على مجاراة غيره، فهو يعي مرحلة العمر، وهكذا قال لكوينتين تارنتينو في حوار له ترجمه راضي النماصي، حول تجربته في فيلم الإيرلندي حين قال: «حين تصل إلى عمري يا كونتين، فتصير أبطأ قليلًا، ومتأملًا أكثر».
جميل أن هذا البطء والتأمل الكثير لم يمنعه من ركوب الموجة، فحياة الأحياء الفاعلين المنتجين خيرٌ من موت في ثوب حياة بدعوى «راحوا الطيبين».