ترجمة: مروان الرشيد
في عام 2009، حصل هيث ليدجر بعد وفاته على جائزة الأوسكار عن أدائه لدور الجوكر في فيلم كريستوفر نولان «The Dark Knight». والقول بأن ليدجر قد نال تقدير أقرانه واعترافهم هو التقليل إلى حد كبير من إنجازه. إن أداء ليدجر الجسور والمُقلق بوصفه مُختلًّا فوضويًّا، حيث يلعب ظاهريًّا دور الشرير في الكتب المصورة لكن أدائه تجاوز المادة المصدرية بكثير– حصل على إشادة تكاد تكون شاملة من النُقَّاد والجماهير على حد سواء. وعند نهاية تصوير الفلم، كان ليدجر قد أكمل انتقاله المهني من مُبتدئ بارع إلى ممثل جاد. وكما علق مُخرجه الأخير، تيري غيليام: «جميعنا اعتقدنا أن هذا الشخص سيكون -من غير شك- أعظم ممثل في جيله».
في أثناء مرحلة ما بعد الإنتاج، تناول ليدجر -الذي قيل إنه يعاني من الأرق- جرعة زائدة عن طريق الخطأ من الحبوب المنومة، وتوفي عن عمر يناهز 28 عامًا.
في أعقاب وفاة ليدجر المفاجئة، دُقِّق في أدائه -والأحداث التي أدت إليه- تدقيقًا مُعمَّقًا. لقد كان تفانيه في حرفة التمثيل معروفًا، وكذلك الشائعات عن اعتلال صحته أثناء التصوير. ولقد استعدَّ بهوس لدور الجوكر، وعزل نفسه عن الحياة العامة «لتحفيز» الشخصية في ذهنه، وقال إن عمله أثرَّ سلبًا على نومه. لذا ليس من المستغرب أن يخضع أداؤه للأساطير، وأن يجري تحليل سبب موته نفسيًّا. وبصراحة: الناس يحبون القصص المأساوية الجيدة.
إحدى الأساطير، التي تعلَّقت بهيث ليدجر، هي أن موته كان -بشكل من الأشكال- نتيجة لانغماسه في دور الجوكر. والفكرة هي أن معركة ليدجر مع الأرق كانت متجذِّرةً في نوع من القلق الوجودي: في قلق «التشكُّل» في شخصية بغيضة. وقد أثار نقاد السينما نسخًا مختلفة من هذه السردية. كتب ديفيد دينبي من مجلة النيويوركر: «حينما تشاهد [ليدجر]، لا يسعك إلا أن تتساءل… إلى أي مدى خرَّب نفسه من أجل لعب الدور بهذه الطريقة. لقد كان أداؤه ختاميًّا بشكل بطولي ومقلق: لقد نظر هذا الممثل الشاب في الهاوية». وأضاف كريستوفر أور من الجمهورية الجديدة: «حتى بدون وفاة ليدجر، كان هذا الأداء باغثًا على الانزعاج الشديد؛ فمن الصعب ألا ننظر إليه على أنه علامة أو عَرَض للمأساة اللاحقة». وفي يوم وفاة ليدجر، تَفكَّر ريتشارد برودي من مجلة نيويوركر: «حين نتذكر ليدجر، يجدر بنا أن نتذكر الآلام التي يتعين على الممثلين -من الهواة إلى النجوم- المرور بها».
مثل هذه التعليقات تُسيء فهم طبيعة الانغماس في الشخصية بشكل خطير، وهو سوء فهم يبدأ بفكرة أن الممثلين «يفقدون أنفسهم» في الشخصية أو «ينسون» من هم. وهناك افتراض أن هذا ينطبق بشكل خاص على الممثلين المنهجيين، الذين يجري تدريبهم من أجل «التوحُّد» مع دورهم.
هناك ذرة من الحقيقة في هذا، ولكنها مجرد ذرة. ولأجل فهم السبب، ضع في اعتبارك نموذجًا نظريًّا طوره عالِمَا الإدراك شون نيكولز وستيفن ستيش، مصمم للمساعدة في فهم فعل التظاهُر. يدعونا نيكولز وستيتش إلى رؤية عقولنا كمجموعة من الصناديق، ويمثل كل صندوق نوعًا مختلفًا من المواقف الإفتراضية تجاه جملة من الجمل. على سبيل المثال، إذا كنت تعتقد أن مخلوق «البيغ فوت» موجود، فإن صندوق الاعتقاد الخاص بك يحتوي على «البيغ فوت موجود». وإذا كنت ترغب أن يُعجب بك الشخص الذي أنت مُعجَب به، فإن صندوق الرغبة الخاص بك يحتوي على «الشخص الذي يعجبني يبادلني الإعجاب»، وهكذا. ويضيف نيكولز وستيش «صندوق العالم المحتمل»، الذي يحتوي على أشياء لا تؤمن بها ولا ترغب فيها، ولكن تُفكِّر فيها. وبالتالي، إذا كنت تعتقد أن العشب أزرق، فإن صندوق العالم المحتمل الخاص بك يحتوي على «العشب أزرق»، وإذا كنت تتظاهر بأنك سلطعون فإن صندوق العالم المحتمل الخاص بك يحتوي على «أنا سلطعون».
وقد قمت مؤخرًا بتوسيع هذا النموذج من خلال النظر في المواقف التي يلعب فيها الانغماس في الشخصية دورًا: عندما تكون منغمسًا تمامًا في شخصية ما، فإنك تستحضر إدراكيًّا وحصريًّا العبارات التي ستؤيدها شخصيتك. فينصب انتباهك -حصريًّا- على صندوق العالم المحتمل الخاص بك، ولا يحتوي صندوق العالم المحتمل الخاص بك إلا على معتقدات ورغبات شخصيتك. على سبيل المثال، إذا كان ليدجر منغمسًا تمامًا في شخصية الجوكر، فقد اعتقد بوعي أشياءً من قبيل: «الفوضى جميلة» أو «الصدفة وحدها عادلة»، ولم يعتقد بوعي: «أنا هيث ليدجر» أو «أنا أُمثِّل في مسرح». وبعبارة أخرى، استحضر ليدجر صندوق العالم المحتمل الخاص به فقط، ولم يهتم بصندوقيْ الإيمان والرغبة.
هكذا الممثلون المنهجيون «يفقدون أنفسهم» أو «ينسون من هم». فهم لا ينسون حرفيًّا من هم، لأن معتقداتهم ورغباتهم الفعلية تظل كما هي (تحتفظ صناديق الإيمان والرغبة بمحتوياتها الأصلية). ومع ذلك، فإن الممثلين المنغمسين تمامًا «ينسون أنفسهم» بمعنى أنهم يتجاهلون الحقائق المتعلقة بهويتهم، ويُخضِعُون أفكارهم ومشاعرهم -مؤقتًا- للشخصية التي يؤدونها. فالممثلون ينسون هوياتهم مثلما ينسى المدمنون العمليات الحسابية؛ فالمعلومات لم تختفِ، وإنما هي غير متوفرة مؤقتًا.
هذه النظرة إلى الانغماس في الشخصية لها العديد من المزايا: فهي تُميِّز بين الانغماس والتوهُّم على مستوى البنية الإدراكية، وتُبرِز ظاهرة الخروج عن الشخصية، وتشرح كيف يمكن للبحث التحضيري أن يُسهِّل الانغماس. ويمكن العثور على نموذج مماثل في أعمال قسطنطين ستانيسلافسكي، خالق «النظام» الذي ألهم التمثيل المنهجي. لكن النموذج الموصوف هنا له ميزة خاصة: فهو يستوعب حديث الممثلين عن «الضياع في الشخصية»، من دون أخذ هذا الكلام حرفيًّا.
إن الخوف غير المُسوَّاغ من «التحديق في الهاوية» يخفي حقيقةً منسيةً -في كثير من الأحيان- حول التمثيل: أنه مُمتِع. وحتى الأدوار الجادة يمكن تأديتها بفرح طفولي؛ فهي لعبة، في نهاية المطاف. وليدجر نفسه قال عن تأدية دور الجوكر: «كان أكبر متعة حظيت بها على الإطلاق في تأدية شخصية». وفي حرصنا على تكريم «الممثل الجاد»، دعونا لا ننسى أن ليدجر -مثل جميع الممثلين الجادين حقًا- أدَّى دوره بابتهاج، وقدَّم دعوةً كريمة إلينا للمشاهدة.
المصدر: aeon