عصام زكريا
مثلما يحدث عادة مع كل فيلم أو مسلسل «تاريخي»، أثار فيلم «نابليون»، أحدث إبداعات المخرج الإنجليزي الكبير ريدلي سكوت، زوبعة كبيرة حول «الأخطاء» أو «الاختلافات» التاريخية التي ارتكبها الفيلم بحق كثير من الحقائق والوقائع «الثابتة» في حياة نابليون بونابرت.
لم يكن قصير القامة، لم يضرب الأهرامات، لم يصفع جوزفين، ولم يكن يكبرها سنًّا، بل هي التي كانت تكبره بست سنوات، لم يشارك بنفسه في أي من المعارك التي قادها، ولم يكن يجيد ركوب الخيل أصلًا.. هذه بعض الاعتراضات التي ملأت صفحات التواصل الاجتماعي، وكثير من وسائل الإعلام، شارك فيها مؤرخون معروفون، وهواة مجهولون، ونقاد سينمائيون، ما دفع سكوت إلى الرد بعنف غير متوقع من مخرج بحجمه، ما زاد الملاحظات حدة والهجوم اشتعالًا.
الملاحظات المتعلقة بعدم الدقة التاريخية ليست حادثة تتعلق بفيلم «نابليون»، ولطالما طالت الغالبية العظمى من الأعمال التاريخية، لعل آخرها مسلسل «The Crown» الذي يتناول حياة العائلة المالكة البريطانية خلال فترة حكم الملكة الراحلة إليزابيث. ولم تقتصر الملاحظات على بعض الوقائع التاريخية، ولكنها انتقدت قيام صناع المسلسل بتحويل الأميرة الراحلة ديانا إلى شبح يتحدث إلى كل من الملكة والأمير تشارلز، وهو ما اعتبره البعض مخالفًا للنوع والروح التاريخية للعمل.
على أيّة حال، فصناع «التاج»، مثل معظم صناع الأعمال التاريخية قالوا إنهم لا يقدمون وثيقة تاريخية، بل عمل درامي خيالي مستلهم من وقائع وشخصيات تاريخية. وإذا كانت هذه العبارة سهلة ومريحة للتخلص من أي انتقاد يتعلق بالدقة التاريخية، لكنها صعبة الاستيعاب والتطبيق على المشاهدين، الذين لا يمكنهم بسهولة أن يكفّوا عن مضاهاة العمل الذي يشاهدونه بالمعلومات والصور المتوافرة لديهم عن هذه الوقائع والشخصيات، ويصعب عليهم أن يتعاملوا مع الموضوع المطروح عليهم باعتباره خيالًا، بل إن الكثيرين منهم يستقون معلوماتهم التاريخية والجغرافية، وأحيانًا العلمية والطبية، من الأفلام!
إشكالية أخرى تتعلق بمعالجة المادة التاريخية أنها في كثير من الأحيان تعتمد على مصادر هي نفسها قراءة ووجهة نظر في التاريخ، وليس التاريخ نفسه، لأنه لا يمكن لنا أن نعرف أبدًا حقيقة ما حدث في التاريخ. وأكبر دليل على ذلك أن الوقائع التي تدور حولنا في الزمن الراهن تظهر على وسائل الإعلام المختلفة بأشكال متباينة ومتناقضة، وفقًا لحدود وجهة النظر التي ترى الواقعة أو تعلق عليها، ولن نذكر الانحياز المتعمد والكذب المتعمد الذي تُروى به الأخبار حولنا. وبطبيعة الحال حين نعود إلى وقائع عمرها عشرات أو مئات وأحيانًا آلاف السنوات، سيكون ذلك بالضرورة عن طريق مصادر قابلة للشك فيها بالضرورة، وقد يختار صانع الفيلم أو المسلسل مصادر ثانوية أو غير رسمية.
وسواء اعتمد صانع الفيلم على مصادر متنوعة وغنية بالمعلومات ومحل ثقة كبيرة «نسبيًّا»، أو اعتمد على مصادر محدودة فقيرة المعلومات، ففي النهاية سيتعين عليه أن يصنع قصة ودراما وشخصيات متصارعة وطيبين وأشرارًا، وهذا في حد ذاته تجريد للتاريخ من حتميته التاريخية ومن العناصر غير الفردية التي تحرك الأفراد وتدفع الأحداث وتصنع الوقائع، وتصيغ طبيعة الصراعات السياسية والاجتماعية بما يتجاوز قدرة -أو مدى نبل وخسة- الأفراد.
ينتمي «نابليون» إلى نوع من الأفلام التاريخية يُعرف باسم السيرة، إذ يركز على سيرة شخصية بعينها، قد يُعنى بسرد الحياة الخاصة لها، غالبًا من خلال استعراض الخلفية التاريخية العامة المحيطة بها، أو قد يُعنى بسرد فترة تاريخية مهمة من خلال هذه الشخصية. «نابليون» ينتمي للفئة الأولى، إذ يضع جل تركيزه على شخصية نابليون بونابرت، الضابط الفرنسي «كورسيكي الأصل» الذي يصعد نجمه عسكريًّا عقب الثورة الفرنسية «1789»، حتى يصل إلى تنصيب نفسه إمبراطورًا، ويقود العديد من الغزوات والمعارك الحربية الناجحة، قبل أن يتعرض للهزيمة ويُنفى ليقضي سنواته الأخيرة معزولًا وحيدًا.
بونابرت هو أحد الشخصيات التاريخية الأكثر شهرة وإثارة للجدل على مر العصور، وهناك آراء كثيرة متباينة حد التناقض بخصوصه، وكان محورًا لآلاف الكتب وعشرات الأفلام الوثائقية والروائية، نذكر منها «نابليون» للمخرج آبل جانس 1927، وهو عمل ملحمي يصل زمن عرضه إلى أكثر من خمس ساعات، ويعد إحدى تحف السينما الصامتة، وفيلم «ديزيريه» «هنري كوستر، 1954» الذي لعب فيه مارلون براندو شخصية القائد الفرنسي، ومسلسل «نابليون بونابرت» «إيف سيمونيو، 2002» المكون من أربعة حلقات فقط، ويعد من أدق وأكمل الأعمال التي صنعت عن نابليون من الناحية التاريخية. مع ذلك، ومقارنة بكم المعلومات والمصادر المتوفرة عن عصر نابليون وحياته وشخصيته، لكن الأعمال السينمائية التي صنعت عنه لم تزل هزيلة نسبيًّا. وكانت التوقعات أن يستطيع ريدلي سكوت أن يعوض هذا الفراغ، ولكن الفيلم جاء صدمة لمحبي سكوت، وللذين كانوا يأملون في مشاهدة عمل تاريخي مهم عن شخصية تاريخية مهمة.
بعيدًا عن الاختلافات -أو الاختلاقات- التاريخية التي يعانيها الفيلم، فإن الفيلم يعاني مشكلات فنية عدة، لعل أهمها أن ريدلي سكوت يضع نصب عينيه أهدافًا متناقضة. فمن ناحية يرغب في صناعة عمل ملحمي كبير، يضج بالمعارك المتقنة والمؤثرات الخاصة، على طريقة فيلمه Gladiator «المصارع»، ومن ناحية يريد صنع فيلم مناهض للحرب والغزو الاستعماري على طريقة فيلمه «مملكة الجنة» Kingdom of Heaven. والنتيجة أن الفيلم يضم معارك باهرة، من أفضل مشاهد المعارك الحربية التاريخية التي ظهرت على الشاشة، ولكنها لا تتسق مع بقية العناصر، وعلى رأسها وجهة النظر التي تقدم بها الشخصية والممثلون. واكيم فونيكس ممثل قدير ومتفرد، ولكن فرادته هذه تضع قدراته في منطقة بعينها، هي لعب الشخصيات غريبة الأطوار بطريقة أو أخرى. وفي أعماله الأخيرة، مع زيادة تجاعيد الزمن على ملامحه، باتت غرابة الأطوار ممتزجة بكآبة تغلفه، وفقدان للحيوية والنضارة. وعندما نعلم أن الفيلم يبدأ بنابليون بونابرت وهو لم يزل في بداية العشرينيات من حياته، وأنه حتى نهاية أحداث الفيلم «باستثناء الجزء الأخير المتعلق بهزيمته ونفيه» كان رجلًا فتيًّا ممتلئًا بالقوة والنشاط، فإن اختيار فينيكس للدور، والطريقة التي يؤدي بها الشخصية، غير مناسبين بالمرة. ومن العجيب أن ممثلًا بموهبة فينيكس يبدو مطفئًا خاملًا في فيلم يلعب بطولته المطلقة، يصل زمن عرضه إلى ساعتين ونصف الساعة تقريبًا، ليس لديه فيه مشهد واحد مؤثر يمكن للمرء أن يذكره.
ريدلي سكوت أراد أن يصنع فيلمًا عن نابليون، ولكنه، كما يظهر من خلال الفيلم، لا يحب نابليون، ويتعمد الإساءة إليه والسخرية منه أحيانًا، وهذه إشكالية أخرى مرتبطة بنوع فيلم السيرة التاريخي. فمن الصعب جدًّا أن يخرج عمل جيد وممتع إذا لم يكن صناع الفيلم يحبون الشخصية التي يدور حولها العمل، ولدينا في السينما تجارب كثيرة على أعمال فشلت لأن صناع العمل لا يحبون الشخصية، من أشهرها «نيكسون» «أوليفر ستون، 1995»، «النجاة من بيكاسو» «جيمس أيفوري، 1996»، «هيتشكوك» «ساشا جرفازي، 2012». يمتد عدم حب الشخصيات في «نابليون» إلى شخصية جوزفين، حبيبة وزوجة نابليون، التي تؤديها فانيسا كيربي، والعلاقة بينهما التي يعتمد عليها الفيلم في ربط أحداثه تفتقد للكيمياء، ومنفرة أحيانًا، ما يزيد من شعور المشاهد بقلة التعاطف والارتياح. ومسألة حب الشخصيات ليس لها علاقة بكونها طيبة أو شريرة، فيواكيم فينيكس قد أدى من قبل دور الجوكر وأحبه الناس، كما لعب دور الشرير في فيلم «المصارع» لريدلي سكوت، ولكن أزعم أن الناس أحبوه في هذه الشخصية أكثر مما أحبوه في «نابليون»!