ترجمة: شيماء بنخدة
ومن المفارقة العجيبة، أن الانطباع الذي تركه الكتاب الرائع «جورج سادول» «George Sadoul» على القارئ حول أصول السينما، بغض النظر عن آراء الكاتب الماركسية، هو بمثابة انعكاس للعلاقات الموجودة بين التطور الاقتصادي و التقني و خيال الباحثين في هذا المجال. فشكل وقوع الأحداث يوحي بنوع من الارتداد الحاصل في الترتيب التاريخي للسببية، والتي بدورها تنتقل من البنية التحتية الاقتصادية صعودا نحو القمة حيث الأفكار الإيديولوجية. فنذهب إلى الاعتقاد أن الاكتشافات التقنية الأساسية هي ضرب من حظ في حين تحتل هذه الأخيرة المرتبة الثانية من حيث الأهمية بالنسبة لتمثلات المخترعين. تعتبر السينما ظاهرة مثالية. ويتجلى تعريفها المجرد في أذهان الناس كتصور للنعيم الأفلاطوني. والجدير بالذكر، أن حالة المقاومة الشرسة للإشكالية والأفكار المتبلورة حولها تحجب الرؤية عن كل إمكانية للمساعدة في خيال الباحثين عن طريق التقنيات.
علاوة عن ذلك، فالسينما لا تدين فعليا بشيء للروح العلمية. فأتباعها ليسوا بعلماء، باستثناء«ماري» «Marey» الذي كان عمله يقتصر على تحليل الحركات بدلا من إعادة بناءها. نفس الشيء بالنسبة لــ«إيديسون» «Edison» الذي يعد في الحقيقة عبقريا عصاميا وأحد عمالقة الاختبار الفرنسي الخاص بالمخترعين «كونكور ليبين» «Concours lépine». أما «نيبس» «Niepce»، «موي بريدج» «Muybridge»، «ليروي»«Leroy»، «جولي”،«ديميني» «Demeny» وحتى «لويس ليميير» «Louis Lumiére»، كلهم يجتمعون في صفة أحاديي الهوس؛ أي أناس يقودهم دافع واحد ومحدد ألا وهو أن يكونوا شخصيات عصامية وفذة في مجال الصناعة فقط. والعجيب في الأمر، هل يستطيع الأستاذ الفاضل «إ.رينود » «E . Reynaud» أن ينكر سعيه المتواصل حول مفهوم «الهاجس» «Idée fine» الذي كان سببا وراء إنتاجه للحركة؟ فأي حساب للسينما يتم استخلاصه فقط من الاختراعات التقنية التي تحد من ارتقاء جودته. ونقيضا لذلك، نجد أن التصور التقريبي والمعقد لفكرة ما يسبق دائما الاكتشاف الصناعي الذي بفضله يمكن أن يفتح الطريق للاستخدام العملي لهذه الفكرة. وعليه أصبح لنا من الواضح اليوم أن يكون للسينما وهي في مراحلها المبكرة بنيان مرصوص لبناته مكونة من الشفافية والمرونة والمقاومة وكذا على مستحلب جاف وحساس قادر على استقبال صورة لحظية. وما دون ذلك، فهو عبارة عن مسألة ترتيب آلية أقرب القول عنها أنها أقل تعقيدا نسبيا من ساعة حائط يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر الميلادي. والجلي في الأمر أن جل المراحل النهائية لاختراع السينما قد تم الوصول إليها قبل استيفاء الشروط المطلوبة. خلال الفترة الزمنية المحددة بين 1877-1880، تمكن محب الخيول «موري بريدج» «Muybridge» ذو الخيال الخصب. أن يصنع جهازا بالغ الحجم والتعقيد، مخترعا بذلك صورة لحصان راكض كأول سلسلة مصورة في عالم الصور السينمائية. وبالرغم من ذلك، كان يستوجب عليه أن يكتفي بالكلوديون المبلل على طبق زجاجي للحصول على هذه النتيجة. أي استعمال عنصر واحد فقط من العناصر الثلاثة الضرورية وهي اللحظية، مستحلب جاف وقاعدة مرنة. وبعد اكتشاف مادة ” بروميد الفضة الجيلاتيني “وذلك قبل ظهور أولى بكرات السيليلويد في الأسواق. قام ” موي بريدج” «Muybridge» بصنع كاميرا أصلية باستخدام الالواح الزجاجية. وبعد ظهور شرائط السيليلويد حاول «ليميير» «Lumière» استخدام تقنية الفيلم الورقي.
دعونا مرة أخرى نتأمل فقط الشكل النهائي والكامل للسينما الفوتوغرافية. إن تركيب الحركات البسيطة والمدروسة علميا من طرف العالم «بلاطو» « Plateau» لم يكن بحاجة إلى انتظار التطورات الصناعية والاقتصادية في القرن التاسع عشر الميلادي. كما أوضح فيما بعد «سادول» «Sadoul » أن لا شيء وقف في هذه الطريق منذ العصور القديمة لصناعة منظار«الفينا كيستوسكوب» أو آلة «زوتروب» . ونخص بالذكر أن المجهودات القائمة من طرف هذا العالم كانت قد مهدت الطريق لمجموعة من الاختراعات التي جعلت الاستخدام الشعبي لاكتشافه ممكنا.
في حين، ومع ظهور سينما التصوير الفوتوغرافي أصبح لدينا سبب لبعض من الدهشة ان فكرة الاكتشاف بحد ذاتها سبقت بطريقة أو بأخرى الشروط التقنية الضرورية لوجوده. ومن ناحية أخرى، يجب علينا توضيح كيفية استغراق ظهور هذا الاختراع كل هذا الوقت الطويل، حيث جمعت كل المتطلبات الأساسية بما فيها ثبات الصورة على شبكية العين المعروفة منذ زمن بعيد. وقد يكون من المفيد الإشارة إلى أنه على الرغم من أن الإثنين ليسا بالضرورة مرتبطين علميا، غير أن جهود «بلاطو» «Plateau» تبقى معاصرة وسباقة لما قدمه «نيسيفور نييس» «Niéphore Niepce». وكأن جل اهتمام الباحثين قد صب تجاه توليف الحركة حتى أصبحت الكيمياء مستقلة تماما عن علم البصريات و مهمة بدورها بالتثبيت التلقائي للصورة«*» .
وأؤكد على حقيقة هذه المصادفة التاريخية التي لا يمكن تفسيرها بأي حال من الأحوال سواء على صعيد التطور العلمي أو الاقتصادي أو الصناعي. فكان بوسع السينما الفوتوغرافية أن تعتمد بشكل أساسي على خدمات منظار«الفينا كيستوسكوب» الذي كان متوقعا منذ فترة طويلة تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي. فالتأخير الطارئ على اختراع هذا الأخير يمثل ظاهرة مزعجة سببها وجود مقدمات السابقين.
ولكن عند إلقاء نظرة عن كثب نجد أن اتجاه بحثهم واضح وضوح الشمس في أدواتهم المستعملة نفسها. بل وأكثر، فلا يمكن إنكار هذا الموضوع البتة. فحتى كتاباتهم وتعاليقهم توحي أن هؤلاء الأسلاف في الواقع أشبه بأنبياء للاختراع. مهرولين نحو محطات مختلفة، كان من المفترض أن يستوقفهم الموضوع المادي عندما كانوا في قمة عطاءهم لبلوغ هدفهم المنشود. هم رأوا في مخيلتهم أن السينما عبارة عن تمثيل شامل وكامل للواقع؛ وشهدوا في لمح البصر إعادة بناء الوهم المثالي للعالم الخارجي في الصوت واللون والنقش.
وبالنسبة لهذه الأخير، فقد ذهب مؤرخ الأفلام«بوطونيي» «P. Potoniée» إلى تأكيد أنه لم يكن الهدف هو اكتشاف التصوير الفوتوغرافي بل اكتشاف «التصفيحية» «Stereoxopy»، التي ظهرت في الأسواق قبل فترة قصيرة من المحاولات الأولى للتصوير الفوتوغرافي المتحرك عام 1851 ميلادية، فأثارت بذلك اهتماما واسعا لدى الباحثين. رؤية الناس بلا حراك في الفضاء، جعلت المصورين يدركون أن ما يحتاجونه هو حركة صورهم لتصبح صورة للحياة و نسخة صادقة من الطبيعة. ومهما يكن الأمر ليس هناك وجود لمخترع واحد لم يحاول ان يجمع بين الصوت و«التضريس ” «relief” مع حركة الصورة سواء أكان الأمر مع «إيديسون» «Edison» ومنظاره الحركي الذي تم تركيبه على الفوتوغرافية مع العالم الفرنسي «شيفغول ” ” Chevreul»، قائلا: «حلمي هو أن أرى صورة تسجل الحركات الجسدية وتعبيرات وجه المتحدث بينما يسجل الفونوغراف كلامه». فبراير، عام 1887 ميلادي). إن سبب تأخر ظهور الألوان يرجع إلى بطء التجارب الأولية لعملية فرز الألوان الثلاثة. لكن «رينو» «Reynaud» كان يصبغ تماثيله الصغيرة بنفسه لفترة طويلة من الزمن. وعليه تم تلوين أفلام «ميليس» «Méliès» الأولى بالستينسلين. توجد كتابات لا تعد ولا تحصى، كلها تشعل لهيب الحماسة بشكل ما أو بآخر. فيستحضر المخترعون مفهوما عن السينما ليس أقل من سينما كاملة تقدم ذلك الوهم الكامل للحياة الذي مازال بعيد المنال. يعرف الكثيرون ذلك المقطع من رواية «Eve future» سنة ميلادية 1891 الذي وضع فيه ” فيلي دو ليسل آدم» «Villiers de l’Isle – Adam» عصارة ملامح الوصف القادم لإنجاز مذهل وذلك قبل عامين من بدء «إيديسون» «Edison» أبحاثه في مجال التصوير الفوتوغرافي للحركة . فالرؤية بجسدها الشفاف الذي تم تصويره بالألوان بأعجوبة فائقة مرتدية بذلك زياًّ لامعا ترقص على أنغام موسيقى مكسيكية شعبية. فكان لحركتها تدفقا الحياة نفسها، وذلك بفضل عملية التصوير المتتابعة التي يمكنها الاحتفاظ بستة دقائق من الحركة على المجهر الزجاجي تنعكس لاحقا بواسطة منظار قوي، مع صوت مفاجئ خافت غير طبيعي، ذي نبرة كئيبة وقاسية. والراقصة تغني أغنيتي «الآلزا» و «أولييه» The Olé ،The Alza فترافقها مغنية خلفية للأداء معا.
إن الأسطورة التوجيهية، التي ألهمت بعد ذلك اختراع السينما. هي بحد ذاتها إنجاز لما كان مهيمنا بطريقة غامضة إلى حد ما على جميع تقنيات إعادة الإنتاج الميكانيكية للواقع خلال القرن التاسع عشر الميلادي. فالتحول من التصوير الفوتوغرافي إلى الفونوغراف، أي الواقعية المتكاملة: هو إعادة خلق العالم على صورته الخاصة أي صورة غير مثقلة بحرية تفسير الفنان أو لا رجعة الزمن. وإذا كانت سينما الأمس وهي في مهدها الصغير تَفْتَقِرُ إلى أدنى مقومات السينما الحديثة فذلك على مضض من حراسها الخفيين الذين لم يتمكنوا من تقديمها بالشكل الأفضل الذي يطمحون إليه.
إذا كانت أصول الفن تكتشف شيئا عن طبيعته، فيمكن للمرء أن يعتبر مشروع الفيلم الصامت أو الصوتي بمثابة مرحلة أولى من التطور التقني الذي جعل شيئا فشيئا من «الأسطورة» الأصلية واقعا. ومن المعلوم أن وجهة النظر هذه، تعتبر الفيلم الصامت حالة من الكمال البدائي الذي تجلت عنه واقعية الصوت واللون هو عبث لا غير. إن أولوية الصورة هي عَرَضِيَّةً تاريخيا وتقنيا. ثم إن الحنين الذي لايزال يشعر به البعض تجاه الشاشة الصامتة لا يعد إلى مرحلة طفولة بالنسبة للفن السابع. إن البدائيين الحقيقيين للسينما، الذين ليس لهم وجود إلا في خيال عدد قليل من رجال القرن التاسع عشر الميلادي هم حقيقة في تقليد كامل للطبيعة. ومن المفارقة أن كل تطور جديد تعيشه السينما عليه أن يقربها أكثر فأكثر من أصلها باختصار شديد، السينما لم تخترع بعد !
سيكون نوعا من الانقلاب إذن على الترتيب الملموس للسببية، على الأقل من الناحية النفسية، حيث نضع الاكتشافات العلمية أو التقنيات الصناعية التي لاحت في الأفق بشكل كبير في تطورها لتكون بذلك مصدرا هاما لاختراع السينما. ومن الشخصيات الشهيرة التي تنبأت بفشل السينما مستقبلا نجد على وجه أخص كل من الصناعيين «إيديسون» و «ليميير». كان «إيديسون» راضيا على أداء منظار الحركة الخاص به، وإذا رفض «ليميير» بحكمة بيع براءة اختراعه إلى «ميليس»، ولكن أيضا باعتبارها ألعوبة سيتعب منها الجمهور قريبا. أما العلماء الحقيقيون مثل «ماري» «Marey»، لم يقدموا سوى مساعدة غير مباشرة للسينما. حيث كان لديهم غرض محدد في ذهنهم ثم ذاقوا نشوة الرضى عند تحقيقه. إن المتعصبين، والمجانين والرواد الغير مهتمين مثل ” بيرارد باليسي” «Berrard Palissy» قادرين على حرق أثاث منزلهم من أجل بضع ثوان من الصور المهتزة. فهم ليسوا صناعيين و لا علماء، فقط مهووسين بخيالهم الخاص. لقد ولدت السينما من رحم هذه الهواجس المتخبطة أي من «الأسطورة»؛ أسطورة السينما الشاملة. وهذا ما يفسر أيضا وبشكل كاف تأخر الثبات في تطبيق المبدأ البصري المتمثل في تباث الصورة على شبكية العين، وكذا التقدم المستمر في تركيبات حركة العين مقارنة بحالة تقنيات التصوير الفوتوغرافي. وكل ما في الأمر، هو أن خيال القرن التاسع عشر الميلادي سيطر على كل منهما على حد سواء. ولا شك في وجود أمثلة أخرى على طول امتداد تاريخ تقنيات واختراعات تقارب الأبحاث. في حين، يستوجب على المرء أن يكون متمكنا من التمييز بشكل واضح بين تلك التي تأتي نتيجةً للتطور العلمي والمتطلبات الصناعية أو العسكرية على وجه التحديد وبين التي تسبقها. وهكذا، كان على أسطورة «إيكاروس” «Icarus» أن تنتظر محرك الاحتراق الداخلي ليخترع قبل أن تهبط من السماء الافلاطونية، ولتسكن في روح كل إنسان منذ اللحظة الأولى التي فكر بها في الطيور. ولحدما يمكن للمرء، أن يقول الشيء نفسه عن أسطورة السينما، لكن أسلافها قبل القرن التاسع عشر الميلادي، لم تكن لديهم سوى صلة بعيدة المدى مع” الأسطورة” التي نتقاسمها اليوم والتي دفعت إلى ظهور الفنون الميكانيكية التي تميز عالمنا اليوم.
هوامش:
(ّ*) اللوحات الجدارية او النقوش البارزة في مصر القديمة تشير إلى الرغبة في تحليل الحركة بدلا من تجميعها. أما بالنسبة لآلات القرن الثامن عشر الميلادي، فعلاقتها بالسينما تشبه إلى حد ما علاقة الرسم بالتصوير الفوتوغرافي ومهما بلغت حقيقة الأمر، أن الآلات التشغيل الذاتي من عصر «ديكات» و « باسكال” قد تنبأت بآلات القرن التاسع عشر ميلادي، فأمر لا يختلف في الطريقة التي يعتمد عليها الخداع البصري في الرسم على طعم التشابه المزمن بينهما. كن تقنية الخداع البصري لم تفعل شيئا يخص ذِكْرُهُ من تطوير علم البصريات وكيمياء التصوير الفوتوغرافي، بل اقتصرت إذا جاز لي التعبير، على دَوْرِ «لعب القرد» «Playing the monkey» بهدف الترقب.
علاوة على ذلك، وتماما كما تشير الكلمة، فإن جمالية الخداع البصري في القرن الثامن عشر الميلادي كانت تكمن في الإقامة في الوهم أكثر منه في الواقع، أي الكذب مقابل الحقيقة. فيجب على التمثال المرسوم على الحائط أن يبدو وكأنه واقف على قاعدة في الفضاء. ومنه، فهذا ما كانت تهدف إليه السينما المبكرة لتتلاشى فيما بعد عملية الغش هاته لتفسح المجال أمام الواقعية الجينية «Genetic realism».