عصام زكريا
يميل الإنسان إلى تذكر المآسي والصدمات الصعبة، التي تترك أثرًا لا يُمحى لبقية عمره، والتي تحتاج في الغالب إلى فترة علاج نفسي طويل لتخفيف هذه الآثار.. كذلك الشعوب.
ولطالما لعبت الفنون والدراما دورًا أساسيًّا في علاج الجماعات والشعوب من هذه الصدمات الهائلة، وفي عصرنا تلعب السينما هذا الدور بامتياز.
من الحرب العالمية الثانية، والأولى، وإلقاء القنبلة الذرية، وحرب فيتنام، بالنسبة للأمريكان والأوروبيين، إلى الحرب الأهلية في لبنان، إلى مذابح جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية… لا يكاد يمر عام تقريبًا إلا وتصدر أفلام جديدة تتناول هذه المآسي التي مر عليها عقود.
في العام الماضي مر نصف قرن على صفحة مظلمة من تاريخ الحكم العسكري في أمريكا اللاتينية، وبالتحديد في تشيلي، عندما قام الجنرال أوغستو بينوشيه، مدعومًا لأجهزة المخابرات الأمريكية، بالانقلاب على حكومة الرئيس المنتخب، اشتراكي الميول، سلفادور أليندي، وقضى بعدها سبعة عشر عامًا من الطغيان والفساد، وقتل عشرات الآلاف من المعارضين، خاصة اليساريين، إلى أن ثار الشعب عليه، وأطاح به في 1990، ليهرب ويعيش تحت حماية الأمريكيين والبريطانيين حتى وفاته في 2006.
أحدث فيلم يتناول تلك الفترة يحمل عنوان «الكونت» El Conde، من إخراج بابلو لارين، وقامت بتوزيعه وعرضه منصة «نتفليكس» في منتصف سبتمبر الماضي.
الكونت لقب ارتبط في أفلام الرعب بأشهر شخصية مصاص دماء، منذ أن كتب برام ستوكر روايته التي تحمل اسم «دراكيولا» في1879، لكن الشخصية نفسها، بأسماء وأشكال أخرى، كانت معروفة في الفلكلور الأوروبي منذ العصور الوسطى.
مع عصر الثورة الصناعية ومولد الرأسمالية انتقلت قصص مصاصي الدماء من دلالاتها الدينية القديمة، لتشير إلى أنواع جديدة «سياسية واقتصادية» من مصاصي دماء الشعوب والعمال. وواحد من أشهر الأفلام التي تحمل هذه الدلالات بشكل مباشر فيلم «أنياب» الذي أخرجه محمد شبل، 1981، الذي لعب فيه المغني الشعبي عدوية شخصية الكونت دراكيولا، الذي يتبدى مرة في هيئة تاجر، أو طبيب، أو سباك، أو صاحب عقارات، مستغلين، يمصُّون دماء البسطاء، في إشارة إلى ما حدث في مصر منذ منتصف السبعينيات من انفتاح اقتصادي أدى إلى غلاء الأسعار، وانقلاب الهرم الاجتماعي «1».
فيلم «الكونت» يشبه «أنياب» في مباشرته، وفي انتمائهما إلى نوع فني يمكن أن نطلق عليه «الرعب الكوميدي الهجائي»، فكل منهما، جزئيًّا، يُصنَّف كفيلم رعب، وجزئيًّا كفيلم كوميدي، وجزئيًّا كفيلم سياسي مباشر الهجاء. وبالنسبة لـ«الكونت» يمكن أن نضيف إلى التصنيف السابق كلمة «تاريخي» أيضًا!
معظم شخصيات فيلم «الكونت» تاريخية: الجنرال أوغستو بينوشيه شخصيًّا، وزوجته وأبناؤه وخادمه الوفي، ويحفل الفيلم بمعلومات وحكايات تاريخية عن بينوشيه وفترة حكمه، ولكن كل شيء آخر خيال في خيال.
مخرج ومؤلف الفيلم بابلو لارين تخصص تقريبًا في أفلام السير التاريخية، خاصة المتعلقة بفترة حكم بينوشيه، ولكن حول شخصيات أخرى أيضًا مثل «نيرودا» و«جاكي» و«سبنسر»، التي تتناول حياة الشاعر بابلو نيرودا وجاكلين كينيدي والأميرة ديانا على التوالي، لكن التاريخ في كل هذه الأعمال لا يلتزم بالتاريخ، والشخصيات والأحداث التاريخية هي فقط بمثابة إلهام لدراما تمزج بين الواقع والخيال في معظم الأحيان.
تتبلور وتتطور فكرة لارين عن معالجة التاريخ سينمائيًّا في فيلم «الكونت». تبدأ الأحداث عقب موت الديكتاتور في 2006. أو بالأدق تبدأ قبل ذلك بقرنين! حسب الفيلم فإن بينوشيه كان ضابطًا في الحرس الملكي الفرنسي إبان الثورة الفرنسية، 1789، يدعى كلود بينوش، وأنه اكتشف ذات ليلة أنه مصاص دماء خالد. ومنذ ذلك الحين يتنقل بينوشيه بأسماء مختلفة ليشارك في قمع الثورات الشعبية وامتصاص دماء الناس، من روسيا إلى هيتي إلى الجزائر، حتى قرر أن يصبح ملكًا، فاختار تشيلي وأصبح حاكمها الأوحد.
في 2006 يقرر الكونت أن يزيف موته، وينتقل مع زوجته وخادمه الأمين إلى مكان صحراوي مجهول، حيث يبدأ في الشعور بالملل والتعب والرغبة في الموت الحقيقي. ولكن وجود مصاص دماء يخرج للاصطياد ليلًا مرتديًا حُلَّةَ بينوش ومعطفه العسكريين، يجعل أبناءه الخمسة يسارعون بالعودة للحصول على ميراثهم «بما أن الكونت لن يموت قريبًا!» كما أن واحدة من بناته تستعين براهبة شابة معتقدة أن أباها تتلبسه روح شريرة.
يربط «الكونت» ببراعة بين أسطورة مصاصي الدماء والديكتاتورية والفساد وقتل المعارضين، ويربط بينها وبين الديكتاتورية الناعمة، التي تتخفى في شكل ديموقراطية، كما في حالة حكم مارجريت ثاتشر في بريطانيا، وبوش الأب ثم الابن في أمريكا. ويحمل «الكونت» لمزات ساخرة مدهشة، إذ يُروى الفيلم بالإنجليزية «مع أن الحوار ناطق بالإسبانية» بلهجة بريطانية تذكر بصوت ثاتشر، ويتضح سبب ذلك في الجزء الثالث من الفيلم.
وبعيدًا عن المضمون السياسي، ففيلم «الكونت» حالة فنية وبصرية ممتعة يمكنه، مثل كل الأفلام العظيمة، أن ينقلك إلى مزاج وعالم ثان، حيث يتضافر التصوير بالأبيض والأسود، مع التمثيل والموسيقى والمؤثرات الخاصة وبقية العناصر الفنية لخلق تأثير تطهيري وتحرري، وفي الوقت نفسه واقعي، بل سوداوي الواقعية.
إذا كان «الكونت» عمل خيالي يتخفى وراء التاريخ، فقد شهد العام الماضي فيلمًا آخر عن فترة حكم بينوشيه يمكن أن نقول إنه عمل تاريخي يتخفى وراء الخيال، وهو فيلم «1976»، أو «تشيلي 1976» «وفقًا للعنوان الذي عرف به في التوزيع الخارجي»، من إخراج وتأليف مانويلا مارتيلي في أول أعمالها.
يدور «1976»، بعد ثلاث سنوات من انقلاب بينوشيه حول سيدة متوسطة العمر اسمها كارمن تعيش حياة هادئة مع زوجها الطبيب ولديها ابنة وعدد من الأحفاد، تذهب لإعادة ترميم بيتهم الساحلي لقضاء إجازة الشتاء، عندما يطلب منها قس العائلة رعاية «لص» صغير تعرَّض لإطلاق النار. مع الوقت تكتشف كارمن أنه ليس لصًّا، ولكنَّه أحد المناضلين ضد حكومة بينوشيه.
لا حديث عن السياسة بشكل مباشر. جملة واحدة أو اثنتان تقال على العشاء بين زوج الابنة وقريب آخر تُبيِّن الاختلاف الحاد بين مؤيدي النظام ومعارضيه. في أحد المقاهي عندما تقوم كارمن بسؤال رجل عجوز يتودد إليها عن فتاة وُجدت مقتولة على الشاطئ، يصمت فجأة وينسحب مُحذِّرًا إيّاها من البقاء في الخارج بعد ساعات حظر التجوال.
وعلى عكس «الكونت» الممتلئ بمشاهد العنف والدم، يخلو «1976» من أي عنف على الإطلاق. المشهد الوحيد لموت أحدهم الفتاة الملقاة على الشاطئ، نراه من بعيد، والإسعاف ينقل جثتها. مشهد اعتداء الشرطة على فتاة أخرى في بداية الفيلم لا نراه على الإطلاق، ولكن نسمع جلبة الشارع من داخل محل بويات تجلس داخله كارمن.
وعلى عكس الأبيض والأسود في «الكونت» تلعب الألوان هنا دورًا أساسيًّا. الأحمر بدرجاته، الوردي الذي تختاره لدهان البيت في المشهد الأول من الفيلم، الذي تسقط قطرة منه على مقدمة حذائها الفاخر وتترك بقعة تتردد عبر الفيلم كله، بداية من عناوين البداية لعناوين النهاية.
بالرغم من قوته مضمونًا وفنًّا، فإن «الكونت»، بعنفه وكم النساء اللائي يُقتلن فيه، يحمل مسحة ذكورية واضحة، بينما «1976» فيلم نسوي يركز على المشاعر غير المنطوق بها للحياة تحت الخوف.
يمكنك أن تقرأ عن فترة بينوشيه في كتب التاريخ، ولكن في كلٍّ من «الكونت» و«1976» فأنت تنتقل عبر الزمن؛ لتعيش داخل تلك الفترة، وتشعر كما لو كنت إحدى ضحاياها. وفيما ينقل إليك «الكونت» مشاعر الفزع والكراهية للديكتاتور وأعوانه، فإن «1976» يسرب إليك الشعور بالوحدة والاغتراب، والبارانويا التي يولدها القمع، وأيضًا بهجة الوعي السياسي الذي يتفتح تدريجيًّا.
هامش:
«1» لمزيد من القراءة عن فيلم «أنياب» يمكن العودة للمقال التالي:
https://www.dostor.org/3388500