عبدالله الأسمري
يتجه بعض المخرجين في أسلوبهم إلى إظهار المدينة وجعلها شخصية مستقلة وجزءًا لا يمكن إغفاله في طريقة سردهم للقصة. وفي هذا المقال سأتطرق لهذا الأسلوب من خلال ثلاثة مخرجين من مواقع جغرافية مختلفة يتميزون بهذا الأسلوب.
أولًا: مارتن سكورسيزي ونيويورك
تعد مدينة نيويورك من أكثر المدن وجودًا في الأفلام السينمائية وظهرت بأوجه كثيرة، منها المدينة الجذابة والمبهرة بأنوارها، وأيضًا المدينة المظلمة المليئة بالانحطاط الأخلاقي والفكري، وجميع وجهات النظر هذه تحمل جزءًا من الصواب. نيويورك دائمًا ما كانت حاضرة في أفلام سكورسيزي، فمن بين 25 فيلمًا روائيًا طويلًا قام بإخراجها ظهرت نيويورك كجزء مهم في 13 فيلمًا، ولعل منها فيلم «taxi driver» الذي تجلت فيه المدينة بجعلها هي محور الصراع الذي يواجهه بطل القصة روبرت نيرو في دور «ترافس بيكل».
ولم يقتصر تقديم سكورسيزي لنيويورك في أفلامه على فترة زمنية محددة، ففي فيلم «gangs of new York» كانت تدور أحداثه في ستينيات القرن التاسع عشر. وبطبيعة الحال لا نستطيع أن نرسم موقف سكورسيزي تجاه نيويورك هل يراها المدينة الفاضلة والمنيرة، أم المدينة السيئة والمظلمة؟ وكلتا الحالتين هي مصدر إلهام يستقي منه قصصًا لأفلامه.
ثانيًا: محمد خان والقاهرة
فضلًا عن أن خان يعتبر من رواد الواقعية الجديدة في مصر التي خرجت لتصور أفلامها في الشارع بعيدًا عن الاستديوهات التي شاع استخدامها آنذاك، فهو من أكثر المخرجين المصريين الذين تربطهم علاقة قوية بالمكان، خصوصًا القاهرة، وتعتبر أفلامه أرشيفًا لشكلها في السبعينيات والثمانينيات الميلادية، وهذا ما رأيناه واضحًا في أول أفلامه «ضربة شمس» الذي ينتمي إلى مشروعه السينمائي بجانب فيلمي «الحريف» و«فارس المدينة».
أيضًا كان المكان حاضرًا في أفلامه التي تحمل قصصًا مستقلة تنتهي بنهاية الفيلم مثل فيلم «خرج ولم يعد»، الذي استعرض المفارقة بين القاهرة المزدحمة التي تعاني أزمة الإسكان الذي بسببها اضطر بطل الفيلم إلى أن يؤجل زواجه سبع سنين، وبين الريف المصري الهادئ البعيد عن ضغوطات المدينة وصخبها.
ثالثًا: عباس كيارستمي وكوكر
كيارستمي يتمتع بأدوات متفردة في أسلوبه الإخراجي ومن ضمنها الاستغلال الجيد للمكان، ففي فيلم «طعم الكرز» رأينا صعوبة الجبل واللون الأصفر الكئيب طوال أحداث الفيلم؛ ليكون عاملًا في إيضاح حالة الاكتئاب لدى بديعي، ولكن المكان الأبرز الذي يرتبط باسم كيارستمي دائمًا هي قرية كوكر التي أخذنا فيها عباس في رحلة نتبع فيها الطفل «أحمد بور» ليجد منزل صديقة في فيلم «أين منزل صديقي؟».
ومن ثم فيلم «وتستمر الحياة» وكان عقب الزلزال الذي ضرب كوكر عام 1990، كيارستمي تعاطى مع الفيلم بأسلوب أقرب للأفلام التسجيلية منها للروائية؛ ليبين ما أصاب هذه القرية بأسلوب غاية في الشاعرية يهديه لضحايا الزلزال.
واختتم هذه الثلاثية بفيلم «عبر أشجار الزيتون” الذي عاد من خلاله ليتتبع مصائر أبطال فيلميه السابقين وحال القرية بعد الزلزال في سياق قصة حب نشأت بين عامل بناء والممثلة الرئيسية في الفيلم.
جميع هذه الأعمال استعرضت كوكر القرية المنسية بطرقاتها المتعرجة وشكلها الريفي البسيط وبتعمق أكبر في حياة سكانها.
حال المدن في السينما السعودية
المدن لم تحضر بشكل رئيس في الأفلام المحلية، فكانت مجرد مكان تدور فيه الأحداث، ما عدا تجربة فيلم «مندوب الليل» للمخرج علي الكلثمي، رأينا فيها محاولة جيدة لجعل المدينة محورًا يبني عليه الكاتب أحداث الفيلم.
الكلثمي استعرض الرياض الجديدة والمتطورة مدينة الأعمال التي لا تنام، ولكن بمنظور «فهد القضعاني» الشخص العالق في الماضي غير المواكب لهذا التطور؛ مما جعلنا نراه دائمًا في الظلام والأحياء القديمة، وهذا يعكس أيضًا التنوع الثقافي والمجتمعي في المدن الكبيرة حول العالم.