سلطان القثامي
في «مندوب الليل» لعلي الكلثمي، يعمل «فهد»، الشخصية الرئيسة في الفيلم، كمندوب لتوصيل طلبات الطعام. يحاول الفيلم من خلال هذا التوظيف إنتاج دلالات متعددة لمصطلح مندوب، وجميعها تقودنا إلى تصور سلبي عن فكرة العمل في هذا المجال. بدأ الفيلم بلقطة خلفية، نرى العالم خلالها، وكأن فهدًا هو عين الكاميرا التي نبصر بها الواقع اليومي.
من منظور المندوب، هي تجربة للثبات الأخلاقي في خضم الجشع والمنافسة وقلة المؤهلات وشح المادة. ارتكب فهد مغالطات كثيرة -مثل بيع الكحول وتخيلاته الذكورية حول زميلته في العمل – لكن في الوقت نفسه هو شاب يعول أسرته، فيهتم بوالده المريض وأخته المنفصلة وطفلتها، ويحب عائلته ويحافظ على تواصله الدائم معهم، ويقوم بمسؤولياته قدر الإمكان تجاه أفراد العائلة. كما أنه ما زال محافظًا على عاداته القديمة بتوصيله الطعام لجارتهم في الحي دون مقابل، وهي عادة اجتماعية قديمة تعكس دفء الثقافة، لكنها تزول بالتدريج مع سيطرة النزعة الفردانية على الجيل الحديث من الشباب.
وفهد شخصية لا يمكن تخيلها فقط، بل عيشها بتفاصيلها الدقيقة؛ لأنها قريبة من الواقع الذي نراه اليوم. عقب طرده من العمل ثم عمله كمندوب، خاض فهد، تحت الضغوط اليومية القاسية، مغامرة خطيرة في بيع الكحول الممنوعة نظامًا في السعودية، تمامًا كما يضطر الكثير من محدودي الدخل إلى ممارسة اقتصاد الظل، لزيادة دخلهم وحل مشاكلهم المادية. بين الإحباط والحلم بالاستقرار، تنمو الشخصيات المعتلة نفسيًا، وهو ليست بشخصيات غريبة أو أجنبية عنا، بل طبيعية وتشغل جزءًا كبيرًا من تعاملاتنا اليومية.
فالأشخاص عرضة للاضطرابات النفسية عندما يصطدم ما بداخلهم من رغبات مع الواقع الجدب. إذا سلّمنا بأن على فهد الانخراط في المجتمع الجديد الذي لا تربطه به أية صلة، ولا يشارك أفراده أي اهتمام، فنحن نؤكد أن عليه أن يكون مضطربًا نفسيًا للعيش في المجتمع المادي الذي لا يريده، وهنا في نظري نقطة قوة الفيلم من ناحية القصة. لكن هل يكفي هذا التفسير السيكولوجي الاجتماعي لفهم الواقع؟ في نظري لا يمكن أن نسطّح المعاناة ونكتفي بحتمية الظروف المعيشية الصعبة لبطل الفيلم. تحتاج الشخصية هنا إلى استجوابات كثيرة، من خلال الحوار، يمكن بها فهم الفلسفة التي ارتكز عليها الفيلم في تصويره لشخص انتهك النظام للهروب من فقره.
لا ندري إن كانت الشخصية الرئيسة قد مرت بتجارب صعبة في الماضي قادتها إلى المبالغة في ردات الفعل، مثل العنف في العمل، وبالتحديد عندما قام فهد بضرب مديره بطفاية الحريق. لكن لا تخدش هذه التساؤلات واقعية العمل ونقاشاته المبطنة حول أخلاقياتنا وصراعاتنا الطبقية، وكذلك نزاعاتها الفردية إبّان التحولات الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية المصاحبة لها في مدينة الرياض بالتحديد.
قضية النص هنا، هي مسألة جوهرية حول افتقاده العمق في تصويره لمشاكلنا الاجتماعية. إذ اكتفى الفلم بتصوير نزعة الشخصيات في التماهي مع المعاناة دون الرغبة في تغييرها، فتبدو الشخصيات غير فاعلة وسلبية جدًا في معالجة الواقع، كما لو كنا نعاني ونضحك على واقعنا دون حلول.
ربما علينا أن نتقبل أن الواقع غير قابل للحل في أحيان كثيرة كما يعكس الفيلم. لكن من ناحية التموضع السينمائي، أجاد الفيلم في كثير من لقطاته. وكونه فيلمًا واقعيًا، لا بد عليه التقنين في شكلياته. أحد المشاهد المنطقية في الفيلم، على سبيل المثال، كانت لقطة وقوف فهد في الشارع تحت أحد أعمدة الإنارة. أراد المخرج هنا استخدام إنارة العمود للتركيز على شخصيته دون الحاجة لمؤثرات أخرى، فنرى فهدًا وكل ما حوله مظلم؛ لأنه الحدث الرئيسي في هذا المشهد.
وكون الفيلم دراميًا يغلب عليه النسق البطيء تكمن إثارته في ردات فعل الشخصيات بعيدًا عما تحمله الحبكة من مفاجآت. وهذا النوع من الأفلام الواقعية لا تكترث كثيرًا بالتشويق بقدر التركيز على تناسق الأحداث ومنطقيتها. يمكنني القول إن تجربة فيلم «مندوب الليل» متقدمة في أسلوبها السينمائي مقارنة بالأفلام السعودية الحديثة، لكن الواقع الحالي المعقد لا يمكن معالجته دون هيكلة سينمائية معقدة في البنية والشكل.