وائل سعيد
أبو صدام.. في هجاء الذكورة ومديحها
أبو صدام، سائق محترف لشاحنة نقل كبيرة تعمل على الطُرق الدولية، نعيش معه على مدار 90 دقيقة رحلة العودة لمدينة الإسكندرية بالعربة فارغة بعد أن تم تفريغ حمولتها وتحصيل قيمة البضاعة. يحملها أبو صدام كعُهدة حتى تصل لصاحبها، وينطبق نفس الأمر على ذكورته التي يتعامل معها بنفس المنطق حريصًا ألا يُصيبها مكروه.
الفيلم يُدين الذكورة الغاشمة باختياره أقصى درجاتها تجبرًا متمثلة في شخصية السائق الشعبي «محمد ممدوح» وتابعه الصبي «أحمد داش» الذي يتمرن على يديه ليصبح خليفته مستقبلًا؛ مشروع قادم يحمل نفس الفكر «الطاووسي» لمفهوم الذكورة، وهو ما تؤكده مخرجة الفيلم» نادين خان» من خلال قصة من تأليفها وسيناريو وحوار لمحمود عزت. مثَّل الفيلم مصر في المسابقة الدولية بالدورة 43 لـ«مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» في عرضه العالمي الأول ونال البطل جائزة أحسن ممثل عن دوره.
وكما هو معلوم، نادين ابنة المخرج الكبير الراحل «محمد خان» وقد اشتركت معه في فيلم «بنات وسط البلد 2005» كمساعد مخرج، والفيلم هو التجربة الإخراجية الثانية لها سينمائيًا بعد «هرج ومرج 2012». نلمح ثمة تشابه بين أبي صدام ورائعة خان «زوجة رجل مهم 1988» فكلاهما نتج من حادثة حقيقية، وكلاهما يناقش فكرة الذكورة. إما على مستواها الأيديولوجي في أبي صدام أو السلطوي في زوجة رجل مهم، كما يتماس ولو قليلًا مع فيلم «عفاريت الأسفلت 1996» للمخرج المتميز الراحل أسامة فوزي، وقد خاطب التمثلات الذكورية من خلال عالم سائقي الميكروباصات.
ثمة حكم قيمي وقطعي ينساب عبر تنامي أحداث الفيلم على الشخصيات الذكورية المطروحة، فالأنثى كما اعتدناها في السينما تؤدي دور «المفعول به»، فنرى زوجة أبي صدام محكومة بين سطوتي الزوج والأخ وصراع كل منهما في فرض هيمنته الكاملة، فيما يأتي التمرد من الراقصة حين يمارس أبو صدام الجنس معها داخل العربة ويفشل، وحين يُصر على تكرار المحاولة تضيق به مؤكدة على قوتها الحالية التي تعادل قوته الذكورية، وقد دفعت من أجلها ثمنًا كلفها نظرة متدنية من المجتمع «أنا جيت معاك بمزاجي وهمشي بمزاجي..».
فالذكورة الجديدة – كما تراها المرأة من خلال الفيلم – تقوم على لا شيء وبحكم قوانين العرف والمجتمع ليس إلا، خصوصًا وهي الذكورة المدانة طوال الوقت؛ سواء في تعاملها مع الأنثى وتسلطها عليها واستخدامها المستمر، أو من خلال تعاملهم مع بعضهم البعض؛ الزوج يُصارع الأخ؛ الصبي «التباع» يحاول سرقة العهدة من أبي صدام؛ السائقون الذين يتحدثون عنه بما لا يحب… وهكذا.
أجادت خان الابنة تحريك الكاميرا واختيار زوايا وأماكن التصوير بما يتلاءم مع أجواء فيلم «الطريق» أو «Road movie»، حيث معظم الأحداث تدور في مواقع طبيعية، ومثل والدها احتفت بالتفاصيل الصغيرة ودلالتها، لكنها لم توفق كثيرًا في اختيار الموسيقى التصويرية وتوجيهات أداء الممثلين، سواء على مستوى البطل، أو الأدوار الثانوية.
من القاهرة.. حكاية كل يوم
شهد التاريخ البشري الكثير من الحركات والمناشدات التي دافعت عن المساواة الكاملة بين الجنسين «الرجل والمرأة»، حدث ذلك بالطبع قبل موجات الحركات النسائية العالمية الحديثة خلال أوائل القرن الماضي في صراعهن الدائم حول الحريات. ولا شك أن للمرأة إرثًا طويلًا من المعاناة – مهما اختلفت الثقافات والسياسات – في رحلتها الوجودية ووضعها الجندري. تسترجع المخرجة المصرية هالة جلال ذلك الإرث القديم في فيلمها التسجيلي «من القاهرة».
يبدأ الفيلم بأبيات شعر لفؤاد حداد «لا أنا منهزم ولا منتصر ولا مستريح، وفي كل خطوة أنا بنكسر وارجع صحيح»، وينتهي برباعية صلاح جاهين «ياللي انت بيتك قش مفروش بريش. تقوى عليه الريح يصبح مافيش. عجبي عليك حواليك مخالب كبار. ومالكش غير منقار وقادر تعيش..»، بين حالات من الانهزامية الجبرية والمعافرة المستمرة تتبع هالة حكاية بطلتيها لتكتشف أنها نفس الحكاية التي تعيشها كأنثى «وأنا بصور رحلتهم.. اكتشفت إنها رحلتي أنا كمان».
المُخرجة هي الراوي في الفيلم، تُعلق على الأحداث وتشترك فيها من وقت لآخر تاركة مساحة من المباشرة للمتفرج في أن ما يُشاهده هو بروفات الفيلم وليس الفيلم نفسه، ربما كي تتماهي حقيقة الواقع مع الخيال الفني؛ لا سيما أن بطلتي الفيلم كاتبة ومصورة «هبة خليفة» ومونتيرة الفيلم «آية يوسف»، ومع هذا الثلاثي نتعرف على حكاية واحدة بطلها الخوف الأنثوي الذي تعاني منه المرأة بداية من البيت وسلطته، ثم سطوة المجتمع وأعرافه، وأخيرًا خوفها الذاتي مع جسدها؛ أقرب ما تتعامل معه في حياتها اليومية تتفاجأ بتقدم العمر أو تغير الظروف كيف أن ذلك الجسد خائن بطبعه، فهو يترهل ويصاب بالأمراض ويقف حائلًا بينها وبين حريتها الحقيقية، رغم ذلك هي في حرب دائمة مع المحيطين من أجل حمايته.
شهدت فترة التسعينيات ظهور ما يمكن أن نسميه بسينما المثقف، لأسماء مثل «رضوان الكاشف، وأسامة فوزي، وبعض الأفلام لخيري بشارة وداود عبد السيد ورأفت الميهي» أيضًا. قدمت هذه الموجة موضوعات ليست بعيدة عن المُشاهد العادي كلية، لكنها خاطبت فئة المثقفين على نحو خاص، من حيث طرح أفكار فلسفية؛«البحث عن سيد مرزوق لداود عبد السيد» على سبيل المثال. واتخذت معظم هذه التجارب من وسط البلد مسرحًا لتصاعد المشاهد الدرامي.
ينتمي فيلم «من القاهرة» إلى تلك المدرسة، فالمُخرجة لم تبتعد عما هو مألوف في طرح مشكلة الجندرية، سواء على المستوى الأيديولوجي الذي يرسخ لمظلومية المرأة وعداوتها مع الذكر «الرجال مثل الكلاب يشمون رائحة الخوف» وردت على لسان «هبة»، أو على مستوى قصد العادية في الأداء والتصوير خلال السيناريو. والذي لم يكن في صالح الفيلم أو القضية.
دفاتر مايا.. كشف المستور
ماذا لو كانت قضية الآخر لا تنتهي، وماذا لو أثرت تبعاتها النفسية على مستقبلي؟! ربما ذلك ما دار في لاوعي الابنة حين اصطدمت بأمها معلنة «عدم شغفك بالحياة بسبب إرثك القديم ليس مبررًا كي أشاركك إياه».. على خلفية ذلك تقوم الحكاية بين الأم وابنتها في الفيلم اللبناني «دفاتر مايا»، سيناريو وإخراج الزوجين جوانا حاجي توما وخليل جريج.
في ليلة عيد الميلاد بمدينة مونتريال، يصل طرد غير متوقع لمايا الأم العزباء، وهي برفقة أمها وابنتها المراهقة المتلصصة وهن من مهاجري لبنان.
يحمل الطرد مراسلات وصورًا وذكريات للأم فترة الثمانينيات مع صديقتها المقربة القديمة قبل الهجرة لكندا، وهي الصورة الأخرى الحالية للابنة «أليكس» التي تحيا في ثقافة وزمن مختلفين، ولكن مع والدتها وجدتها الآتيتين من زمن غابر.
صنعت ذكريات الأم حياتها ومثلها تصنع الابنة ذكرياتها الجديدة، ولكن عبر وسيط مختلف؛ فالصور الفوتوغرافية تم استبدالها بديجتال الموبايل؛ المراسلات مع الصديقة عبر الخطابات المرصعة بالقص واللصق، أصبحت جروبات واتس أو حجرات افتراضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى الآخر المتمثل في الأصدقاء لم تعد العلاقة تحتاج للقاءات مباشرة بين الطرفين؛ فالبنت على صلة بالعديد من الشخصيات والأصدقاء الافتراضيين دون أن تقابلهم وجهًا لوجه.
تتلص الابنة على محتويات الطرد بعد رفض أمها أن تريها إياه، فتتكشف لها سنوات الحرب البعيدة التي سمعت عنها الكثير من حكايات الأهل والأقارب، لكنها لم تعشها من قبل، حيث ولدت في كندا ولا تحمل من جنسيتها سوى الاسم فقط، فحتى لغتها العربية قليلًا ما تستخدمها، خصوصًا مع جدتها التي تجهل اللغة الأجنبية، وهو ما تعيبه عليها الحفيدة «بعد كل هذه السنوات أندهش يا جدتي كونك لا تعرفين سوى العربية».
تمثل الأم والجدة قضية الحرب القديمة المنصرمة التي حاول الكثيرون مثلهما من مهاجري بيروت الابتعاد بالجيل الجديد عن ويلات هذه الحرب، وهو ما تم بالفعل فيما بعد، حين ولد العديد من هذا الجيل خارج البلد الأم واندمجوا داخل مجتمعات مختلفة وثقافات مغايرة تنظر للمستقبل بعين كلية قد لا تتناسب مع الإرث القديم.
تكتشف الأم تلصص ابنتها وهنا يتغير موقفها وترضخ لها لتحكي عما هو غير موجود داخل صندوق الذكريات. وينتهي الفيلم بالمصالحة عن طريق الجيل الجديد «الابنة» هي التي تأخذ بيد الأم لزيارة لبنان وهناك تلتقي أصدقاءها وحبيبها القديم وترتد دفعة واحدة لعنفوان الشباب ورغبته في محاولة لاستكمال الحياة. ثلاث نساء من أجيال مختلفة بين فكرتي الحرب والحب يندمجن بأسلوب سينمائي بسيط ورهيف على مستوى الأحداث وأداء الشخصيات للتأكيد على ضرورة الاستمرار وسط أي ظروف.