أحمد أبو درويش
تجلس فتاة ضريرة أمام مذياع على تردد 13.10 تحت قصف النيران في مدينة ساحلية فرنسية، تردد بعض الكلمات التي حفظتها من أستاذها.. «إن الضوء المنبعث عند احتراق الفحم، هو في الحقيقة ضوء الشمس».
وتضيف: «الضوء يستمر لملايين السنين داخل قطعة فحم، لكن الظلام لا يدوم حتى لثانية واحدة، عندما نشعل الضوء».
بهذه الجمل الفلسفية، يبدأ العمل التلفزيوني الذي أنتجته نتفليكس «كل الضوء الذي لا يمكننا رؤيته» والمستلهم من رواية بالعنوان ذاته للكاتب الأميركي «أنتوني دوير»، وهي الرواية الحائزة جائزة بوليتزر وحققت مبيعات مليونية وترجمت لأكثر من 15 لغة.
يحكي المسلسل المحدود الذي كتب السيناريو الخاص به الكاتب الشهير ستيفين نايت، وأخرجه شون ليفي، عن معركة تحرير مدينة «سانت مالو» الفرنسية وطرد القوات النازية على يد الحلفاء، ضمن معارك إنزال النورماندي الخالدة.
تدور الأحداث حول فتاة ضريرة البصر، «ماري لوري لوبلانك» والتي تعلقت بالمذياع على تردد 13.10 حيث يجلس الأستاذ كل ليلة، قبل موعد نوم الأطفال، ليحكي لهم عن «الضوء» وعن السلام الذي لا بد أن يملأ العالم.
لكن الظلام يملأ العالم بشكل مفاجئ، وتصبح مدينة باريس الآمنة التي كانت تقطنها الفتاة مع أبيها، يحفّها القلق، فيقرر الأب المغادرة مع ابنته لمدينة أكثر أمنًا على الساحل الغربي لفرنسا حيث بيت أقاربه.
ماري تقابل الأستاذ
تنتقل «ماري» إلى مدينة سانت مالو لتقابل عمها «إتيان»، فتتعرف عليه من صوته، وتكشف سره حين يريها غرفته الخاصة بأعلى البناية التي يستخدمها للاستماع إلى الراديو، إنه «الأستاذ».
تقاطعات كثيرة في العمل الدرامي الرائع، تظهر سريعًا من المشاهد الأولى تلفت الانتباه، وتزيد من أجواء التوتر، لكن الأسرار في هذا العمل تنفضح أيضًا منذ الدقائق الأولى. فالفتاة التي تبث من التردد 13.10 بديلاً عن «الأستاذ»، والتي ترسل رسائل لأبيها وعمها، تعبر عن افتقادها لهما، لنظن للوهلة الأولى أن العمل سيدور حول البحث عن الأب والعم المختفيين، إلا أننا وبعد دقائق نكتشف تفاصل أكثر وأهم من فكرة البحث عن شخصين غائبين. إذ يتبين أنهما منخرطان في أعمال المقاومة. وتبدأ خاصية «الفلاش باك» بشرح جليّ لكل الأحداث بحرفيّة عالية لا تهدهد التوتر ولا تفضح النتائج.
وتدور التقاطعات تلك في فلك الفتاة الضريرة التي تبثّ على التردد ذاته الذي بثّ منه الأستاذ قبل الحرب، فهي ترسل رسائل مشفّرة لقوات التحالف بقراءتها لكتاب «20 ألف فرسخ تحت الماء»، وهو كتاب فرنسي ضمن الخيال العلمي ألفه جول فيرن. بينما على مسار آخر من الأحداث، يبحث عنها ضابط بالجيستابو كي يحصل على جوهرة فرنسية نادرة يشاع أنها قادرة على شفاء الأمراض، وهي الألماسة النادرة التي أؤتمن والد ماري عليها ضمن عمله في أحد المتاحف الفرنسية.
الذكرى التي قد تدفع صاحبها للموت
على الجانب الأكثر ظلامية – حينها – من أوروبا، ينشأ طفل يتيم داخل ملجأ ألمانيّ في الحقبة النازية، لكنه يبدو متميزًا عن بقية أقرانه في فك وتركيب المذياع، بل إنه كان يخترع مذياعًا وهو لا يزال في سن الطفولة، لتلفت عبقريته ضباط الجيستابو فينتزعونه من الملجأ لضمه للجيش الألماني بغرض تعقب أماكن الترددات التي يستخدمها الحلفاء لبث الشفرات العسكرية فيما بينهم.
يستمع الجندي الألماني «فيرنر فينيج» – بحب – كل يوم للفتاة ماري عبر المذياع، تخليدًا لذكرى جميلة، حيث كان الراديو المضبوط على محطة البث 13.10 شرفته الوحيدة على العالم، و«سرّه الأعظم» وهو لا يزال طفلًا في الملجأ، بعدما جرّم الرايخ الثالث استماع الشعب الألمانيّ إلى المحطات الخارجية، ووصلت عقوبة الاستماع لتلك المحطات للإعدام. ومن ثمّ، وحين أصبح جنديًا، فقد بدأ تضليل قادته في سبيل الحفاظ على تلميذة أستاذه.
وحين يكتشف أحد قادته أمره، يبرّر تعلقه بأستاذه الفرنسيّ بقوله إنه «كان يعلمنا الحقائق، بينما الجميع يمنحوننا آراءهم، لقد قال لنا افتحوا أعينكم قبل أن تغلقوها للأبد» وأعقب ذلك قتله لقائده.
الضوء في مواجهة الظلام
منذ اللحظة الأولى للعمل الدراميّ الشيّق، نرى رسائل «الأستاذ» واضحة وجليّة، رغم ضراوة الحرب فلا بد أن يظل الضوء باقيًا داخل القلوب. وأن تظل الحكاية تروى رغم كل شيء، وهو ما أصرت الفتاة «ماري» على فعله تحت القصف، حيث كانت تجلس وتحكي وتحكي.
فمن أهم مقولاته التي حفظتها الفتاة ورددتها – عبر المذياع – على مسامع الجندي الألمانيّ الموكل بمراقبتها وقتلها: «وحتى في الظلام الدامس، يبقى للضوء وجود في ذهنكم».
يقترب العمل من الانتهاء وقد هرب الجنديّ من خدمته بعدما قتل ضابطًا آخر، في إطار حمايته السريّة لـ«ماري»، ليقابل في اللحظة ذاتها «الأستاذ» الذي كان يراقب المنزل لحماية تلميذته.
تنتهي المشاهد بعد ذلك بمقتل الأستاذ في قصف مدفعيّ ويهرب «فينيج» لإنقاذ «ماري» من ضابط الجيستابو الذي هاجمها هو الآخر للحصول على قلادة الألماس النادرة، فيسقط ضابط الجيستابو بطلق ناريّ في الرأس أمام الألماسة التي كلفته عمره. وأخيرًا، تنتهي الحرب ويدخل الأميركيون المدينة ويرقص تلميذا الأستاذ على المقطوعة الموسيقية ذاتها التي كان يبثها على تردد 13.10.