د. أشرف راجح
ما هي نظرية المؤامرة؟ هل هي ببساطة الاعتقاد بوجود رابط خفي وراء كل ما يجري لنا أو علينا أو أمامنا من أحداث أو حتى حوادث. فإذا سألت إنسانًا: هل تؤمن بنظرية المؤامرة؟ فإجابته ستكون بالإيجاب أو بالنفي. وفي الحالتين ستكون الإجابة نتيجة لمؤامرة! ففي حالة الإيجاب، فستكون التهمة الجاهزة، هي الخضوع للمواد الإعلامية المضللة التي تقودك إلى أن تكون ضحية لتبني أسلوب «نظرية المؤامرة» في التفكير. أما في حالة النفي، فستتهم بأنك كنت ضحية “مؤامرة” أخضعتك للتغييب الفكري بحيث جعلتك لا ترى خيوط تلك المؤامرات الواضحة من حولنا. المفارقة هنا أنه في كلتا الحالتين سيكون نفي وجود «المؤامرة» أو إثباتها هو في حد ذاته نتيجة «مؤامرة»!
من مقدمات شبيهة انطلق فيلم «نظرية المؤامرة» Conspiracy Theory، وهو فيلم تشويق وحركة صدر في سنة 1997 من إخراج ريتشارد دونر، وبطولة: ميل جيبسون وجوليا روبرتس وباتريك ستيوارت. ويحكي قصة «جاري فليتشر» سائق الأجرة في «نيويورك» غريب الأطوار الذي يؤمن بنظرية المؤامرة وبأن كثيرًا من الأحداث العالمية هي مؤامرات حكومية، بل وبتدخل حكومي في كل شيء، بدءًا من شؤون الحياة اليومية البسيطة، مرورًا بالاغتيالات السياسية، وانتهاءً بظهور الكائنات الفضائية. ويبرز النجمان «جوليا روبرتس» و«ميل جيبسون» الحائزان على جائزة «أوسكار» اللذان يجتمعان للمرة الأولى في فيلم من نوعية التشويق والإثارة، لنرى «أليس ساتون» محامية جميلة تعمل في وزارة العدل، وتتورط مع سائق السيارة الأجرة المهووس بنظرية المؤامرة في عصر يتفجر فيه الإعلام الجديد والإنترنت بقصص المؤامرات ومكائد التستر؛ حيث يقوم «جيري» بتجميع بعض الشائعات والمعلومات والمشاهد الضبابية من ماضيه في صورة منظمة تجسد عددًا من المؤامرات الغريبة. يقدم هذه التحذيرات إلى المحامية الحكومية التي يشعر بانجذاب غريب نحوها، رغم أن «أليس» لا تصدق كثيرًا أفكار «جيري»، التي تبدو سخيفة، إلا أنه يثبت صدق مخاوفه حين تقع مواجهة مرعبة تغوص بهما معًا في دوامة من الخداع والشر والقتل، حين تقع بالمصادفة واحدة من تلك المؤامرات التي تنبأ بحدوثها بالضبط، فتدفع الحكومة بمجموعة من الأشخاص الخطرين للحصول عليه حيًا أو ميتًا، ليقوم بالهرب ومعه «أليس».
ننتقل بعد ثلاثة عشر عامًا إلى فيلم «كازينو جاك» Casino Jack، وهو فيلم قدم عام 2010، من إخراج جورج هيكنلوبر، وبطولة كيفن سبيسي. ويركز الفيلم المأخوذ عن الحياة المهنية لعضو في جماعة الضغط السياسي «اللوبي» lobbyist لصالح الحزب الجمهوري في العاصمة واشنطن، على رجل الأعمال جاك أبراموف، ويعكس الفساد المستشري في بعض الدوائر وكواليس السياسة الأميركية، من خلال جاك الذي يعمل للتأثير على الكونجرس في التصويت بالطريقة التي يريد، وفي المقابل يحصل على مبالغ من المال من مجموعات المصالح الخاصة التي استفادت من هذا التصويت. استطاع جاك أن يحقق نجاحًا سريعًا وذلك بتدبيره العديد من المكائد ومؤامرات قبل أن يتم فضحه وإزاحته عن عرشه في عهد الرئيس الأسبق، في إحدى أكبر الفضائح التي هزت واشنطن في السنوات الأخيرة، وهو الذي تورط في فضيحة فساد واسعة النطاق أدت إلى إدانته، بالإضافة إلى إدانة اثنين من مسؤولي البيت الأبيض، وأيضًا النائب بوب ناي وتسعة آخرين من أعضاء جماعات الضغط من أعضاء الكونجرس. أدين أبراموف بالاحتيال والتآمر والتهرب الضريبي في عام 2006، وتجارة الهدايا والوجبات والرحلات الرياضية باهظة الثمن مقابل خدمات سياسية، وقضى أبراموف ثلاث سنوات ونصف من حكم بالسجن لمدة ست سنوات في السجن الفيدرالي، ثم تم حجزه في منزل «منتصف الطريق» قبل أن يتم إطلاق سراحه في نفس عام عرض الفيلم: عام 2010.
إنه فيلم ينتمي بشكل ما إلى نوعية أفلام السيرة الذاتية التي تجمع بين الكوميديا والإثارة والجريمة، فهو عبارة عن حالة نقدية وفنية قوية تناقش قضايا الفساد التي تجتاح العديد من الدول، ويمزج ما بين الحقيقة والخيال بإضافة بعض العناصر الضرورية لمسار قصة الفيلم، مصطحبًا المشاهدين في رحلة ساخرة إلى خفايا السياسة الأميركية وكواليسها، استنادًا إلى قصة حقيقية وفيلم وثائقي حقيقي تم إصداره العام الذي سبق ظهور الفيلم. وقصة الفيلم مليئة بالمناطق والأحداث الثرية لاعتمادها على معلومات موثقة، وهو عمل يستحق المتابعة رغم مشاهد الحوارات الطويلة التي دفعت إيقاع الفيلم للبطء النسبي. وتم ترشيح سبيسي لجائزة جولدن جلوب لأفضل ممثل، في فيلم موسيقي أو كوميدي عن تصويره لأبراموف، وخسر في النهاية أمام بول جياماتي عن دوره في فيلم «نسخة بارني Barney’s Version». كما منح الناقد الكبير روجر إيبرت الفيلم ثلاثة من أصل أربعة نجوم، مشيرًا إلى أن «كازينو جاك صريح جدًا، إنه مذهل». وإيبرت هو أول ناقد سينمائي يفوز بجائزة بوليتزر الأدبية الشهيرة عن فئة النقد، والذي قال نيل ستاينبرج من صحيفة شيكاغو صن – تايمز عنه إنه «كان بلا شك الناقد السينمائي الأبرز والأكثر تأثيرًا في البلاد»، ووصفه توم فان ريبر من مجلة فوربس بأنه «أقوى خبير في أميركا»، وأيضًا كينيث توران من صحيفة لوس أنجلوس تايمز بأنه «ناقد الأفلام الأكثر شهرة في أميركا». ورغم رأي «إيبرت» المدوي، فإن الفيلم لم يلقَ التقدير النقدي أو النجاح الجماهيري الذي يستحقه.
إن عضو جماعة الضغط القوي «جاك أبراموف» انطلق في حملة مقدسة لاكتساب كل المنافع التي يمكن أن يشتريها المال والسلطة والامتياز. وشرع مع شريك العمل «مايكل سكانلون» «باري بيبر» إلى جانبه، في استخدام هذا النفوذ الكبير لتكوين إمبراطورية شخصية لهما مربحة ومؤثرة. فلا مانع من التحايل على الأقليات من السكان الأصليين واستغلال الرشوة القانونية التي منحت لهم بعض الامتيازات والإعفاءات الضريبية في تأسيس نوادٍ للقمار تحت رايتهم، أو الدعم الدائم للكيان الصهيوني وإرسال أسلحة الرؤية الليلية للمستعمرين بالضفة الغربية، لاصطياد المقاومين، وفي المقابل إرسال أسلحة للمقاومة. يتعاون أبراموف وسكانلون مع صديق متصل بعالم المافيا لتنفيذ أحدث مخطط لهما، ولكن سرعان ما يجدان المعبد وقد انهار فوق رأسيهما، ليبيعه ربيبه سكانلون عند أول مفرق، معترفًا عليه دون عتب من أبراموف باعتباره ينفذ ما علمه من مبادئ. لقد كان أبراموف ومعه ربيبه يخططان لخطط طموحة تضمن لهما أكبر قدر من المصالح، ولكنها بطبيعتها كانت تدخل بهما إلى عالم من الجريمة والفساد المقنن، الذي يصبح منطقيًا، وأحيانًا لا غنى عنه في رحلة الصعود. و«المؤامرات» الصغيرة التي نسجها أبراموف لتحقيق صعوده، هي جزء من منظومة أكبر منه سمّها أيضًا مؤامرة أو سمّها ما شئت، ولكنها في النهاية يجب أن تبتلعه. فحين يقف أبراموف مصليًا وهو الذي يتنقل بسلاسة بين مظهر اليهودي المتدين وشعائره، وأداء الصلوات المسيحية على حسب المنافع، نراه يردد مناجيًا: «وألهمني القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ»، نجدنا نسأل أنفسنا: هل بالفعل الصواب والخطأ نسبي من عصر إلى عصر ومن زمن إلى زمن، أم أن هناك «مؤامرة» كونية ما استطاعت أن تقنعنا بأن نحيا ونتحرك على تلك الساحة من الظلال التي تنظمها الخطوط الرمادية؟!