محمد سيد ريان
عادة مايكون الانطباع السائد على الأفلام التي تتميز بطول المدة الزمنية، وخاصة لو كانت من نوع السير الذاتية والتاريخية، بأنها حشو زائد أو تسبب الملل؛ ولكن هذا الفيلم يفلت من هذه القاعدة الجامدة ليعبر عن متعة تزداد تألقًا خلال ثلاث ساعات من العرض المتواصل.
بالتأكيد لايجعلك الفيلم ترى أوبنهايمر عبقريًا فذًا في مجال الفيزياء فقط، أو شخصًا مدمرًا في المطلق باعتباره أبو القنبلة الذرية، لكنك تراه شخصًا عاديًا له زلاته العظمى على المستوى الشخصي والعام.
استخدام طريقة الفلاش باك بدت طريقة ثابتة طوال الفيلم وفق رؤية المؤلفوالمخرج كريستوفر نولان، بحيث يكمل الماضي الحاضر ويحل ألغازه. ومن الذكاء الإخراجي أيضًااستغلال الطبيعة الغريبة والمركبة لشخصية أوبنهايمر، فمن شخص يعشق العلم ويرى الفيزياء طريقة جديدة لفهم الواقع ويحقق إنجازات مهمة نراه في المقابل شخصًا أنانيًا لايفكر حتى في أقرب الناس إليه، ومنهم ابنه الصغير الذي يكلف شخصًا غيره وغير أمه لرعايته، وكذلك تخليه عن حبيبته «جين تاتلوك» بسبب انتماءاتها الفكرية التي تتعارض مع طموحه في مشروعه، وهو شخص لايرى إلا مصلحته المباشرة عند قياس الأمور، فنجده يسعى لتسميم أستاذه لأنه منعه من حضور محاضرة! وعلى جانب آخر، يبدو رحيمًا ومساعدًا للثورة الاجتماعية في إسبانيا، وعلى قدر كبير من الود والمحبة لأخيه الأصغر، ويستمتع بالفنون والموسيقى.
يبدو المشهد الذي تلتقي فيه عينا أوبنهايمر مع لوحة بيكاسو رغم الثواني القليلة له مثاليًاواختيارًا ذكيًا من صناع الفيلم، فاللوحة التي نظر إليها بتمعن كانت لوحة «ماري تيريز والتر» التي رسمها بيكاسو لحبيبته في فترة مضطربة من حياته، والتي قامت فيما بعد بالانتحار، وهو الشيء الذي حدث مع حبيبة أوبنهايمر نفسه في الفيلم.
يقدم الفيلم معلومات ثقافية وعلمية كبيرة للمشاهدين، لو اعتمدوا على أنفسهم لربما احتاجوا من أجله للرجوع لعشرات المراجع عن الشخصية والحرب العالمية الثانية ودول الحلفاء والمحور وأدوار دول أخرى في الصراع كاليابان، وكذلك نجد أنفسنا أمام أشهر العلماء أمثال: أينشتاين وزيلارد وهايزنبيرغ، كما نسمع عن أوتو هان وفريتز ستراسمان وتجاربهم المهمة بالانشطار النووي، بالإضافة إلى مجموعة العلماء الكبيرة في مشروع مانهاتن الذي سيكلف باختراع القنبلة الذرية.
رغم كل النواحي الإنسانية بالفيلم لايبدو التبرير نافعًا لأوبنهايمر، فحتى ماذكره الفيلم من أن قرار إلقاء القنبلة على هيروشيما كان من اختصاص السياسيين والعسكريين وليس العلماء،كماتبدو فكرة تراجعه الشكلي عن دعم المشروع الأميركي للتسليح النووي في فترته الأخيرة أشبه ماتكون بتحسين السمعة كما فعل نوبل عنداختراع الديناميت، ثم صاغ فكرة جائزته الشهيرة وقد أشار أحد حوارات الفيلم إلى ذلك.
ويبدو الطموح الكبير لأوبنهايمر، الذي أداه بثقة كبيرة الممثل الأيرلندي «كيليان مورفي» الذي تظهر لمساته خلال العمل وكذلك خلفيته كمؤلف، فنجده يسعى بكل جهوده لاستكمال مشروع مانهاتن مهما كانت العقبات، فحتى بعد انتحار هتلر وسقوط ألمانيا السبب الرئيسي للسعي لإنتاج القنبلة الذرية نجده يطرح حلًا بوجود اليابانيين كعدو بديل، فقد كان سعيه للمجد الشخصي أقوى من أي مقاومة، وخصوصًا بعد قيامه بالتسويق لفكرته ببراعة في الأوساط الأميركية،ورغم كل التحذيرات أغمض عينيه وبصره وبصيرته عن العواقب التي حدثت بالفعل وأكثر.بالتأكيد يفتح الفيلم هذا الموضوع بطريقة أكثر نضجًا عن إمكانية تأثير الدوافع الشخصية في القرارات العالمية المصيرية.
تبدو إشارة الفيلم في مقدمته عن أننا بصدد «بروميثيوس» جديد – الذي سرق النار من الآلهة وأعطاها للبشر فقيدوه بالصخرة حسب الأسطورة الإغريقية– غير موفقة،ففي رأيي أن الأقرب لما حدث هي «باندورا»، وهي أيضًا أسطورة إغريقية تتحدث عن الصندوق الذي تنتشربفتحه كل الحروب والأوبئة والأمراض والشرور الكثيرة، وهذا بالضبط ماحدث بعد اختراع القنبلة الذرية.
بالتأكيد لايوجد خلاف على جودة الفيلم من الناحية الفنية أو الإمكانيات المستخدمة أو المؤثرات البصرية الرائعة، وخصوصًامشهد اللحظة الحاسمة عند تجربة تفجير القنبلة.
ربما يطرح الكثيرون أفكارًا جاهزة عند المشاهدة بما معناه «انقلب السحر على الساحر» أو خلافه، ولكن الموضوع كما تم طرحه ليس بهذه النظرة السطحية، فالفيلم قابل لرؤى وتأويلات عديدة ربما لاتقل تركيبًا وتعقيدًا عن دراسة الفيزياء وتفاعلات النجوم في حدها الأقصى، أو حتى بقراءة شخصية أوبنهايمر في حدها الأدنى، والتي لاتخضع لأي قواعد أو أفكار مسبقة.