د. عبدالرحمن أبوشال
تتمحور قصة فيلم Seven Psychopaths حول مواجهة مارتي صعوبة في كتابة فيلم لا يعرف منه إلا العنوان وهو «المضطربون السبعة»، كل شيء قائم على العنوان وحده، فلا توجد قصة ولا حتى شخصيات. لذا، يحاول صديقه بيلي إنعاش مخيلته لبناء الشخصيات، وبعد ذلك تتضح ملامح القصة ويبقى تطويرها. أحد أهم المشاهد في هذا الفيلم هي حيث يجتمع بيلي، وهو ممثل يبحث عن دور في فيلم، بآخرين حول نار في ليلة مظلمة، ويبدأ فيها بتقديم مشهد بطولي كبير تدور أحداثه في مقبرة وتتداخل فيه عناصر كثيرة ومواقف بطولية في صراع مع زعيم عصابة وأعوانه. هذا المشهد البطولي قائم على المبالغة لحد الإغراق، وبتجاوزه الواقعية دخل حد الشاعرية.
في تصوري أن من مثل هذه الحالة، من تجاوز الواقعية والدخول للشاعرية، خرج لنا فيلم «ناقة» للمخرج مشعل الجاسر، ووجوده في هذه اللحظة من التاريخ يضعنا أمام سؤال مهم، وهو «ما العلاقة بين صناعة الشعر وصناعة الأفلام؟» في الماضي لم تكن أدوات الإنتاج متوفرة حتى يصنع الشاعر صورًا متحركة يصحبها تسجيل صوتي ليوهم المتلقي بأنه يرى الواقع أمامه على الشاشة. كان الشاعر يصنع الصور في مخيلته وينسجها على إيقاع، ثم يعبر عنها لفظيًا ليشعل حواس المتلقي فتصبح مخيلته هي مسرح الأحداث التي تعرض عليها الصور الشاعرية. القاسم المشترك بين الشعر والفيلم هو منشأ الأحداث، أي المخيلة.
تستنبط المخيلة خيالاتها من الواقع والتجربة، وهي مسرح خفي يتصور فيها كل إنسان أحداث قد لا تمت للواقع بصلة، وكلما عاش الإنسان في مخيلته أحكم تخيلاته وركبها وفككها كما شاء. ويجوز في المخيلة ما لا يجوز في الواقع. ولك أن تتخيل ثبات الشاعر على صورة في مخيلته، يعكف عليها الأيام والشهور، ينظمها صورةً وصوتًا، ليلقيها على مسامع الناس ليستثير مشاعرهم، ويجول بهم بين الحسن والقبيح، فيقول: «ولقد ذكرتك والرماح نواهل.. مني وبيض الهند تقطر من دمي.. فوددت تقبيل السيوف لأنها.. لمعت كبارق ثغرك المتبسم» أي صورة كانت لتكون لو كان عنترة مخرجًا سينمائيًا؟.
فيلم «ناقة» خرج من مخيلة طالما سعت للخروج عن المألوف، ربما لأن مخيلته لا تركن أصلاً إلى ما هو مألوف، فتنظر فيما يتقبله العامة على أنه أمر «عادي»، فتبالغ في بعض تفاصيله وتستصغر أخرى، وبهذا يتجلى له أن هناك الكثير من الأمور المصطنعة التي يألفها الناس وهي ليست «طبيعية»، رغم أن العامة تراها كذلك لأنهم ألفوها في محيطهم. على سبيل المثال لا الحصر، قد يبالغ الشخص في التزام «هويته» فيتجاوز حدوده، كالثلاثة الذين تمادوا على سيارة الآيس كريم.
لا شك أن الفيلم بالغ في تصويرهم لحد «الإغراق»؛ أي أنه بالغ في المبالغة، فقدم بعض سمات هذه الفئة بشكل بارز وجعلها مركزية، وأجبر المشاهد على استقباح منظرهم، ولولا المبالغة لما تحقق هذا الأثر الذي يستدعي المشاهد السؤال عما إذا كانت هذه السلوكيات فعلاً واقعية، مثلما أجبر عنترة المتذوق لقصائده على استحسان القبيح والتأثر بشوقه عندما عبر عنه في صورة متحركة إلى حد ما، فهل رأى عنترة ثغر حبيبته المتبسم في السيوف البارقة حقيقةً؟ ما هي إلا تخيلات، والصورة أبلغ من الكلام، خصوصًا في التعبير عن العاطفة.