إيمان الخطاف
لطالما ضاعفت قوة الحكاية من جودة الفيلم، ويزداد هذا التأثير حين التعمّق بدلالة كل شخصية في النص، وهو تكنيك امتاز به المخرج الياباني العبقري هاياو ميازاكي، الذي وظّف طائر مالك الحزين في فيلمه الجديد The Boy and the Heron أو «الصبي ومالك الحزين»، باعتبار أن هذا الطائر سمي بذلك لأنه يعيش بالقرب من البحيرات والمستنقعات الصغيرة، وعندما تجف، يظل يحوم حولها وكأنه حزين على جفافها.
والطائر هنا يحوم حول مآسي الصبي «ماهيتو» الذي ينتقل مع والده من طوكيو إلى الريف، بعد وفاة والدته في حريق مؤلم، ثم يشعر بفجوة كبيرة بينه وبين زملاء المدرسة وزوجة والده والجدات العاملات في المنزل، فينغمس في حزنه ووحدته وكوابيسه، إلى أن يصادف طائر مالك الحزين، ويكتشف معه لغز البرج المهجور، في رحلة عجائبية تتناول فلسفة الموت، وحياة ما بعد الممات، وإمكانية إعادة الموتى من جديد، وكلها مواضيع لطالما شغلت ميازاكي وقدمها في أعماله، خاصة أنه وعى على أعقاب الحرب العالمية الثانية، فهو يدرك جيدًا مآسي الحروب وويلاتها.
ويمكن تقسيم الفيلم – الذي يأتي بحدود الساعتين – إلى نصفين، ففي الساعة الأولى نجد فيلمًا واقعيًا يخلو من الغرائب، ثم يأتي التحوّل في الساعة الثانية المشبّعة بالخيال والمغامرات الشبيهة بمغامرات «أليس في بلاد العجائب»، حيث يتعرض الصبي ماهيتو للموت أكثر من مرة، ثم ينجو بتدخل طرف جديد، ويعود بشجاعة للبحث عما فقده، إلى أن يدرك لاحقًا أن ما يريده كان أمامه طيلة الوقت، لكن وجعه أعمى بصيرته وحجبه عن إدراك ذلك.
وتتمركز المغامرات داخل البرج المهجور الذي يبتلع الأحياء والأموات، في مناظر طبيعية تجمع الجبال والسماء والبحار، ويتقاتل فيها الببغاوات من آكلة البشر من أجل سيادة هذا العالم الميتافيزيقي؛ في حين تحاول طيور البجع التهام مخلوقات صغيرة تُدعى «وراورا» بدافع البقاء، على الرغم من أن تصرفها هذا يهدد استمرارية ضخ الكوكب ببشر جدد، وكلها صراعات تتداخل في عمل أشبه برواية أدبية شيقة.
صحيح أن The Boy and the Heron ليس أجمل أعمال ميازاكي، إلا أنه أحد أفضل الأفلام التي صدرت في عام 2023، خاصة من الناحية البصرية التي اشتغل عليها ميازاكي باحترافية عالية، في مشاهد ورسومات غنية بالتباين وتتشابه مع بعض اللوحات الشهيرة، مثل لوحة «جزيرة الموتى» للرسام السويسري أرنولد بوكلين، في بداية دخول الصبي ماهيتو إلى العوالم التي خلف البرج المهجور.
الفيلم الذي يأتي من إنتاجات استوديوهات «غيبلي» اليابانية، يُكمل سلسلة روائع ميازاكي ويؤكد أن الإبداع السينمائي بحر لا ينضب، وأن المخرج الذي تجاوز الثمانين عامًا، وقرر الاعتزال أكثر من مرة، ما زال قادرًا على إدهاش الجمهور، والعودة من جديد لإنتاج أفلام مليئة بالسحر والحكايات التي تلامس الحس الإنساني والأسئلة الوجودية، وهي نقاط يتقاطع بها كل البشر وتحاكي ما يشعرون به، إلا أن ميازاكي يقدم ذلك بلغة سينمائية شاعرية تركز على الإنسان وعلاقته بالأشياء من حوله، مما يخلّد بصمته الفريدة في العقل والوجدان.