غفران قسَّام
انعطاف روح!
لنفترض أن الملل والرتابة سيتم تمثيلهما في شاشة السينما. فهل يوجد مسمى توصيفي عام عن الملل! لا. فالملل عيني وغالبًا ما يرتبط بشيء ما أو بإيقاع تواتري لحدث ما. وحين يصيب الملل شخصيات الفيلم سيكون لمللها مستهلكون أيضًا، خاصة عندما يثير الوصف الفيلمي له ذلك الشعور بالضجر داخل المتفرجين! وربما يتحدث عن هذا الجسر التأثيري بين الفيلم والجمهور قولٌ للأديب الروسي مكسيم غوركي Максим Горький عن الإنسان: «الكل موجود في الإنسان، الكل من أجل الإنسان». ولهذا، يظهر الحضور الفيلمي لأجل الإنسان. فالتركيب البنائي للفيلم يصنع موقفًا إنسانيًا يثير في المتفرج ما يصنعه من مشاعر إنسانية! لكن أن يصنع فيلمٌ تلك المشاعر دون أن تتحدث شخصياتها حرفًا واحدًا، فتلك بلاغة بصرية مؤثرة، بل بلاغة موسيقية أكثر تأثيرًا في أن تكون هي الحدث!
خلال سبع وثلاثين دقيقة من المشاهدة، قدم فيلم تحويلة Detour في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي لهذا العام، تلك الرؤية بحلة السينما الصامتة. إذ تعامل الفيلم مع واقعة العامل البسيط في موقع تحويلة بتوصيف سينمائي لحالته النائية عن المجتمع الإنساني عبر أداء حركة الكاميرا، وحركة الممثلين فقط، مع وجهة نظر الإخراج عن إضاءة المكان ومظاهر العتمة فيه.
عبثٌ وبيانو!
عنوان الفيلم | تحويلة Detour |
نوعه | دراما – فيلم قصير – ألوان (37 دقيقة) |
بطولة | بدر أبو هميل |
إنتاج | هتان الدوسري |
عام الإنتاج | 2022 |
كتابة وإخراج | ظافر الشهري |
لغة الفيلم | بيانو- موسيقى تصويرية |
بثيابه الزرقاء، يتماهى تمثيل عامل التحويلة مع يومياته منذ لحظة استيقاظه لنهوضه، وإعداده لطعامه، وترتيب مظهره، إلى دخوله منطقة العمل برايته الصغيرة وهو شغوف في ممارسة مهماته طوال النهار إلى انتهاء وقت الدوام وعودته لغرفته التي يعيشها لينتهي اليوم بغسيل ثيابه، ثم نومه. ويبدأ يوم جديد بذات الإيقاعات الأولى في حياته مع ظهور حبكات العبث المتنامية في الإخراج، مثل: الرسائل العاطفية دون مستقبِل، فخاتم زواجه دون شريكة، ثم صندوق بريده دون ساعي بريد! وغيرها من عبث متكرر إلى أن يصل البطل مرحلة تعطل ديناميكيته عن العمل، واكتئابه، مع عدم رغبته في حمل راية موقع التحويلة إلى أن يسقط مغشيًا دون أن ينقذه أحد!
عبر تلك الأحداث، تؤدي حركات البطل دون حوارات مع الممثلين الآخرين حكايةَ قصص العبث. فلم يُسمع صوت الممثل، سواء في حالة رضاه أو ضجره! بل برزت الموسيقى التصويرية كلغة أكثر نطقًا في الفيلم بلغة البيانو وهي مفعمة في دعم حبكة الرتابة في الأحداث، كما قدمت عناصر الجذب لانعطافات الملل في يوميات العامل. فالبيانو هو الصوت الوتري الذي اعتمد عليه الفيلم في تأطير وتريات اللقطات البصرية بأسلوب درامي. فهي تترافق مع حركة أصابع الممثل البطيئة والسريعة، وقفزاته، وتقلب جسده، وعينيه… وغيرها. كما أنها تدعم لقطات الفضاء المكاني في الفيلم، وتوثيق زمنية أصوات الفراغ فيه، والسراب، وعجلة السيارات، فالحافلة ذات المرور الخاطف. ولعل توظيف الإخراج لبطولة صوت البيانو كلغة تعكس معاني تلك الآلة بوصفها إيقاعًا مسموعًا لمقطوعة موسيقية بعزف منفرد غالبًا، يقرأ الأحداث ألحانًا تُدار وتُكرر بين وصلة وأخرى برتمٍ منتظم روتيني جمالي مؤثر تمامًا كما ظهر البطل في الأحداث يفعل إيقاع يومياته بروتين منتظم، لكن لطبيعته البشرية التي تأنس وجود الآخرين وتطلب التواصل معها، قد أشعره الفراغ بالملل والموت، ومن ثَم توقف الإيقاع بسقوطه وانتهاء حياته. أما الموسيقى فاستمرت؛ لأن طبيعة لغتها تتوسع في التواصل مع الموجودات، فهي لا متناهية، ولهذا لم يتوقف تأثيرها جماليًا وصوتًا.
ولعل تلك البنية الموسيقية الظاهرة في البناء التركيبي للفيلم، قد أمدت بنية العبث الداخلية في حكاية الأحداث الصامتة بمزيد من وقود المشاعر الإنسانية، التي وصلت حرارتها إلى نفوس المشاهدين أثناء عرضها في شاشة صالات المهرجان وتقديرهم لفكرتها. كما عكس الفيلم ثقافة حضور المُختلف في الأفلام السعودية بإحيائها حضور نوع السينما الصامتة رغم ندرة الأعمال في حقلها، لا سيما أن بدايات الحِراك السينمائي العالمي ظهر صامتًا، ثم تنامى مرحليًا بدخول الصوت إلى تطوره، إلى عودة ظهور الصمت بدراما مستر بين Mr. Bean الإنجليزية الكوميدية الشهيرة التي ظهر فيها البطل نادر التحدث أيضًا، لكن بأداء حركي وموسيقي ناطق تمامًا كما ظهر أداؤه في الفيلم السعودي القصير “تحويلة”، الذي أخرج فنية الصمت لموضوع الرتابة والعبث!
باحثة دكتوراه مهتمة بالدراما والسينما