عساف المسعود
يدعونا علي الكلثمي في فيلمه «مندوب الليل» إلى اكتشاف الرياض من خلال الكاميرا ليأخذنا معه إلى عالم متعدد الطبقات، دون أن نغرق في البحث عن الرمزيات أو المعاني الخفية.
نعم، يستعصي أن تجعل من الرياض في جو من الدراما دون أن تصورها في فصل الشتاء حيث انعكاس أضواء اللوحات الإعلانية على تجمعات المياه في الشوارع ونوافذ السيارات، وذلك السكون الغامض. هذا المشهد الساحر الذي سيجعل أي مخرج في ورطة لانتظاره هذا الفصل من السنة في الرياض ليغذي المشاهد بتنوع ومثالية بصرية.
تشارك كلا من الكلثمي والقرعاوي في كتابة الفيلم، لتتشكل ثنائية المخرج والمنتج حيث تجربتهما المشتركة في تلفاز 11، التي جعلت من العمل يتحلى بنوع من الخبرة، بالإضافة إلى تأثر الكلثمي الواضح بالمخرج Martin Scorsese مع طابعه الخاص.
كما دفعت بنا الكاميرا وبشكل ناعم في بداية الفيلم إلى مساحة مفتوحة من التخمين، عن ماذا يحدث مع «فهد» ليأخذنا بعد ذلك إلى الزمن الأول من القصة.
إن قصة «فهد» التي جسدها الممثل النجيب محمد الدوخي، وفيلم «مندوب الليل» لا يمكن أرشفتها ضمن أفلام المشكلة الاجتماعية، كما لا يمكن أن نوثقها ضمن أفلام ما بعد الحداثة، وذلك لواقعية الأحداث. بالرغم أنه نقل صورة تجاوزت سلطة التقليد والمعروف والعيب والنهاية غير الكلاسيكية، وهذا ما تحتاجه الصناعة السينمائية السعودية.. كان الفيلم يسير على حد المشرط وأتفهم ذلك.
وضع «مندوب الليل» نفسه كأول فيلم يعرض في صالات السينما ويصور الحياة المعاصرة وبأصالة لمدينة الرياض وبلمحة جادة وواقعية، كانت الزاوية البعيدة في أحد المشاهد معبرة بشكل كافٍ وهي تصور منطقة مرتفعة في حي أم الحمام والمدينة المالية تطل في الأفق، لذلك تميز الفيلم بالاكتمال والأمانة والواقعية.
كان «فهد» غير واضح الأهداف في الحياة، حتى إنه تخلى عن أن يكون مديرًا في الشركة لصديقه الذي أسهم في توظيفه، وعندما أخطأ في العمل تخلى عنه وأبعده من الشركة، وهنا تجلت قصة «فهد» الذي سار في أحداث متتالية وتورطه مع إحدى العصابات بهدف الخير لإنقاذ حياته الأسرية ومستقبله كشاب، وتحوله لشخص خاطر بسرقة الكحول من العصابة.
من بداية الفيلم إلى نهايته والخوف يلوح على وجه «فهد»، وقد يكون هذا ما جعله سريع الاشتعال غاضبًا. ويمكن لنا قراءة ذلك في مشهد طفاية الحريق عندما استخدمها للهجوم على اللجنة في الشركة التي طالبته بتقديم استقالته.
عدم وضوح الأهداف، والخوف، وعدم القدرة على التعبير العاطفي لصديقته في العمل بأنه يحبها شكلت من «فهد» هذه الشخصية الجامحة التي قد تقتل في نهاية الفيلم بشكل وحشي كما شاهدنا.
«فهد» ليس شريرًا، فهد كان غاضبًا لا يستطيع التعبير عن مشاعره، لم نعرف كم عمر «فهد» في الفيلم، لكن لو فرضنا أنه من جيل Z فهو قد مثل تلك الحالة الواسعة التي يعاني منها هذا الجيل بالتحديد، وهي ضعف التواصل أو التعبير عن النفس بشكل غير مألوف للأجيال التي تسبقه.
نعود للكلثمي الذي تفوق في عزل المساحات التي قد تشعرنا بالملل، ونجاح الدوخي في تمثيل هذا الشخص المدعو «فهد». قصة الفيلم بشكل عام ليست فريدة، هي قصة تشابه كثيرًا من القصص في هوليوود، لكن الجديد فيها أنها في الرياض.
كان سياق المشاهد وطريقة تركيبها سلسًا ولم يغفل القائمون على العمل التفاصيل، رغم أن أحد المشاهد، التي اتصل فيها «فهد» على الفتاة التي يحبها ليدعوها لأحد المطاعم الفارهة، وكمية الأحداث إلى لحظة اللقاء، كانت طويلة لتقف دقيقة صمت وتقول.. متى تم تحديد الموعد، هل فاتني شيء هنا.
الكوميديا السوداء تخللت الفيلم، كان هذا الحس من الكوميديا حاضرًا، وتم توظيفه في مكانه الصحيح ومن النوع الذي يدفعك للضحك بعمق لدرجة أن أحدًا لن يسمع صوتك في صالة السينما. من ناحية أخرى، استطاع الفيلم اختيار المشاهد البطيئة بطريقة جيدة لتعميق بعض المعاني.
لفت نظري أحد المشاهد كانت فيها مرآة ملقاة في الشارع توقف عندها المخرج بشكل واضح، وكأنها على الأقل بالنسبة إلي تجسد ثورة المرايا التي تشهدها الرياض، بل وأصبحت في بعض الأحيان مزارًا يصطف الناس ليشاهدوا فيها انعكاس رغباتهم.
طرد «فهد» من وظيفته، ووالده يعاني من المرض، وسرق الكحول من العصابة وحاول بيعها لطبقة مختلفة عنه من سكان حي «حطين»، الذي أكد عليها الكاتبان في الفيلم، مصورًا حياتهم بأنهم شابان أصلعان غير جميلين يلبسان الثوب دون شماغ ويبحثان عن المتعة في الكحول والبيتزا.
في نهاية الفيلم اختطفت العصابة «فهدًا» وكان قائد السيارة يقود بتهور. المشهد كان مشوشًا لم يكن «فهد» يتعرض للضرب، لكن كان يستجدي أن يتوقفوا ويعدهم بأن يعيد لهم الكحول. في لحظة قائد السيارة قرر أن يقود بسرعة عالية لم يكن لها مبرر. لم يتضح أن العصابة كانت تحت تأثير أي مسكر أو مخدر، لكن في النهاية انحرفت السيارة عن مسارها ووقعت في الوادي. المشهد باعتقادي هنا كسر قانون النتيجة والسبب.
سقطت السيارة في الوادي ونجا «فهد» وأقدم على قتل الناجي الوحيد من العصابة، وهام على وجهه في الرياض ليقف في إحدى المحطات ينتظر رحلته في الحياة ويستقل الباص مع طبقة العمال الكادحة في مشهد وثق فيه الكلثمي ملامح وجوههم على نمط صور الـphotograp في نهاية مفتوحة لم تحدد مصير «فهد» وموقفه من الحياة.
أخيرًا، كان هناك براعة في الفيلم ورغبة جلية في النجاح وتسجيل علامة فارقة في صناعة الفيلم السعودي.