يزيد بدر
«الرغبة في إعادة تنشيط مشروع التحرر والتغيير الذي صاغته الحركات الجذرية في هذه الفترة فشلت أمام صعود مجتمع الاستهلاك وحضارة التسلية».
مارك جيمينيز
مقدمة:
إن أحد الأمور التي تقف عائقًا أمام ظهور فن أصيل هو صعود مقولات منذ الحربين الكبريين مثل التسلية التي يقابلها الاستهلاك. فمع اشتداد النظام الرأسمالي لحضارتنا وبعد ويلات عاشها أبناء القرن العشرين، صارت التسلية هي المعيار الجمالي لأي عمل. وحتى يمكن تحقيق الترفيه والتسلية لإنسان القرن الواحد والعشرين، لا بد أن يعمل ويكد حتى أنفاسه الأخيرة، فالعامل في عصرنا هذا لا يحتاج منا فنًا يشبع حاجتنا العليا، ولا فنًا ينادي بتغيير الحياة مطالبًا بالحياة الحقة، ولا فنًا يدخل في حوار ضد الميتافيزيقا من خلال التلاعب وتدمير القواعد. العامل يحتاج ببساطة إلى التسلية مع نهاية كل أسبوع، ومما يدعم هذه التصورات، فضلًا عن ويلات القرن العشرين وتعاظم الرأسمالية التي نحتت بحق إنسانها المثالي؛ أي القرد الذي يتشبث بموزته، فضلًا عن هذه العوامل تلعب عقيدة أخرى تنحدر لنا من أقدم العصور وتقول: الفن هروب من الواقع. لذلك علينا أن نبدل هذه العلاقة التي بدأها بحق هايدغر بأن نقول: في الفن تنكشف الحقيقة. فأنت لا تهرب من خلاله، بل تلتقي بالحقيقة بمظهر مختلف ليس إلا. لذلك يكون الرهان أحد أمرين:
- أن نعيد بناء التسلية من الداخل بحيث نصل للجمهور الكادح ونعطيه ما يريد مع جرعات جمالية أصيلة.
- أن نكون جذريين ونقدم أعمالًا تقف ضد الترفيه فارضة رؤيتها مهما كانت النتائج.
أظن هذه القفزة التي على الفنان في العصر الحديث أن يقوم بها، قفزة نحو مصير مجهول، ولكنه متناهٍ.
مع ذلك، الفن ليس خطابًا متمركزًا حول الحقيقة، لذلك لا يمكن اتهامه بالكذب والخديعة.
كيف للفن أن يكون هروبًا من الواقع، وهو ما يشكل جوهر واقعنا، فيما يُطلق عليه صناعة الثقافة؟ أليست عقيدة الفن هروبًا وتسلية تقودنا إلى الإقبال اللاواعي للفن تحت شعار براءته من الواقع، ومن ثم نستسلم له حتى يعيد برمجة قيمنا وفق مصالح ما؟ إذًا، كيف نوفق بين كون الفن تعبيرًا عن الحقيقة ذاتها، وبين أن الفن ليس خطابًا متمركزًا حول الحقيقة؟ يكون ذلك ممكنًا من خلال إعادة فهمنا لكلمة الحقيقة، وكذلك من خلال فهم جديد للواقع، ومن ثم نخرج بمفهوم الواقعية الذرية، وهي جمع يركب الإنسان من جديد في قالب فيزيوبيولوجي «الفيزياء- والبيولوجيا». لذلك، لفهم الحقيقة علينا أولًا أن نفهم:
- اللعب «قواعد اللعب دائمًا مؤقتة وداخلية، في اللعب جدية بلا ثقل أخلاقي، اللعب تعليق مؤقت للحقيقة المتعالية».
- يبقى أن نفهم كيف يكون اللعب ممكنًا؟ دون شك من خلال البيوفيزيائية، نظرية التطور تحديدًا، ومن خلال أن الفن «غريزة»، وأن هذه الغريزة تعود للانتقاء الطبيعي والجنسي الذي بدوره يتأسس على إيروس وثاناتوس «غريزة الحياة وغريزة الموت».
عناصر اللعب
الفن ليس هروبًا عن الواقع، ولا هو تكشف للحقيقة، إنه لعب أو لُعبة تعتمد على عنصري البيوفيزياء لدى الإنسان؛ أي نظرية التطور والوجود في عالم فيزيائي له قوانينه هو الآخر. وعليه، لا يُفهم من الفن أنه يُقدم حقيقة متعالية، ومن هنا ننفي عنه أنه مجرد هروب عن الواقع، كما ننفي عنه أي تكشف متعالٍ للحقيقة. إنه لعب، ولكل لعبة عناصر رئيسية، وهي:
- الحقيقة.
- الجدية.
- القواعد.
إن كل لعبة لا تكون ممكنة دون هذه العناصر، فالحقيقة في كل لعبة تُقاس بحسب سياقها، لذلك الموقف اللعبي من العالم هو موقف يعلق كل حقيقة متعالية مؤقتًا. فالحقيقة في لعبة الشطرنج هو الانتصار فيها، والحقيقة في لعبة الورق (بالوت) تكمن في عملية البناء التي تخضع لمتغيرات عدة مثل: نوع الورق، ومهارة اللاعبين، وفي هذه اللعبة تحديدًا لك الخيار في تحديد قواعدها من خلال اختيارك لنمط اللعبة؛ أي حكم وصن… إلخ. لذلك، الإبداع في العملية الفنية يكمن في عنصر الحقيقة التي تم وضعها في مجال الرؤية، وهذه الحقيقة هي دومًا محايثة ونسبية، مما يجعل كل نقد لا بد أن يأخذ في الاعتبار مكان هذا العمل من بقية الأعمال، بلغة تتجسم ما نريد قوله: هذه اللعبة تدخل في أي نمط من الألعاب الأخرى. وعليه، فالفن ليس هروبًا من الواقع، بل هو أحد تجليات الواقع الذرية أو الجزئية، كما أنه لا يكشف أي حقيقة متعالية على التاريخ أو ما فوق زمكانية.
والجدية مطلب مهم في اللعب كما هو كذلك في الفن، فلو لعبت الشطرنج مع شخص لا يريد أن يأخذ قواعد اللعبة وحقيقتها بجدية فلن تستمر اللعبة، بل سوف تتعثر، ولو نزع منه الجدية تمامًا لما صارت اللعبة ممكنة. وقد تحدث غادامير عن الجدية في اللعب، وهي عنصر مهم لأنها إقرار ضمني بالالتزام بهذه اللعبة بكل عناصرها، والذهاب معها إلى مداها البعيد الذي هو تحقيق حقيقتها.
أما القواعد، فلا لعبة دون قواعد، ومن ثم لا فن بلا قواعد، ولكن وفقًا لما قلناه عن ماهية الحقيقة يتضح أن قواعد اللعب اعتباطية. والطريف في مفهوم اللعب أن ما هو اعتباطي يأخذ عنصر الضروري، فلو لم نلتزم بالقواعد لما صارت اللعبة ممكنة، وهذا مدخل آخر للجدية في اللعب. إن مفهوم اللعب يعد نقدًا قويًا لتلك الثنائية الميتافيزيقية التي تعارض بين الضروري والاعتباطي أو القبلي والبعدي، فهنا نجد قواعد اعتباطية مصطنعة إلا أنها ضرورية لتحقق العمل الفني أو اللُعبة.
أصل اللعب
يتأسس اللعب على عنصرين: تركيبتنا البيولوجية ووجودنا الفيزيائي، وسوف أركز هنا على البعد البيولوجي، وإن كانت الظاهرة الفنية في أصلها ظاهرة بيوفيزيائية.
على كل اللعب غريزة كونية، من خلالها يستطيع الإنسان تحويل الأشياء إلى أداة للتكيف، كما يحولها لاستعراض جمالي بدافع التكاثر. فالفن في جزء كبير منه ظاهرة بيولوجية، ومن هذا الأساس علينا أن نفهم اللعب، فأن تلعب يعني أن تحقق رغبةً ما، وإشباعًا مباشر أو غير مباشر، وهو ما يجعل الفن يقترب من تفسير فرويد للأحلام بوصفها تحقيق رغبات، وهذه الرغبات لديه تقوم على تدمير الذات؛ أي غريزة الموت أو بناء الذات؛ أي غريزة الحياة، وهو ما ذكره في كتاب “مبدأ ما فوق اللذة”، وعليه ينطلق الفن ليكون لُعبة تكيفية، وقد يظهر أحيانًا بوصفه تعويضًا لأداة مفقودة. هذا التفسير الطبيعاني للفن الذي يميل للبيولوجيا والسيكولوجيا، نستطيع أن نؤرخ له منذ هيوم وشوبنهاور ونيتشه وفرويد، فالفن لدى نيتشه ليس إلا انعكاسًا لغريزتين متمثلتين بالإله أبولون وديونزيوس. فاللعب ترجع أصوله إذًا لنظرية التطور، وغايته تكيفية «الانتقاء الطبيعي» أو جمالية «الانتقاء الجنسي».
خاتمة
في النهاية ليس في التسلية من عيب أخلاقي، ولا هي خطيئة لإنسان الحداثة الآثم، إلا أن مفاهيم عدة قادت الفن إلى ربطه بتسليةٍ هي أقرب للقولبة مما جعل قدرة الفنان على إبداع ما هو غير سائد شبه مستحيلة، مما جعله أمام خيارين: إما أن يتماهى مع جمهور التسلية ويتخلى عما يظنه «أصيلًا»، أو يقبع في عزلة عميقة في مواجهة ذاته الجريحة. ما تريد هذه المقالة تحقيقه هو ببساطة: أن نوسع قليلًا ملكاتنا الجمالية، ونفتح فيها مساحة لتلقي ما هو خارج حدود عاداتنا العميقة. إن أفضل سبيل لتلقي الفن يكمن في ربطه مع الحياة، فنحن لا نريد من الحياة ما هو يسير، بل نطمع بعمقها وتفجر طاقاتها من خلالنا. وعليه، جمعنا ثلاث رؤى تجمع بين الحقيقة والفن:
- الحقيقة والفن ليس بينهما علاقة، فهذا وهم مقابل حقيقة.
- في الفن تتكشف الحقيقة المتعالية أو التاريخية.
- لكل لعبة فنية حقيقتها الذاتية.