أحمد أبو درويش
يتلقى «ناصر» «براء عالم» مكالمة هاتفية يخبره أحد الأشخاص بإلغاء رحلته المقررة إلى أبوظبي. فيردّ ناصر عليه بأنه كان متوجهًا للتوّ إلى المطار ويأمره بحجز طائرة أخرى، فيجيب الشخص ذاته أنه لا رحلات قبل صباح الغد.
يتصل ناصر بأبيه ويقول إنه تعذر عليه إيجاد طائرة، فيأمره أبوه بالسفر برًا هو وأخته لحضور حفل زفافه.
وعلى مدى السكة الطويلة للسفر، يواجه ناصر ومريم «فاطمة البنوي» مصاعب لم تكن في الحسبان. إذ تبدأ سيارة ضخمة في مطاردتهما والتضييق عليهما. ومع كل محاولات ناصر للابتعاد عن تلك السيارة، تعود السيارة من جديد لمطاردتهما، دون كللٍ.
المطاردات تدفع الملل عن مشهد السيارة
يحفل فيلم «سكة طويلة» بمشاهد شيقة ومطاردات عنيفة بالسيارات لم تأخذنا بعيدًا عن فلسفة الفيلم وثيمته الجيدة. ويبدو أن مؤلف الفيلم وكاتبه «عمر نعيم»، لجأ إلى تلك المطاردات بذكاء شديد، كي يدفع الملل بعيدًا عن أعين المشاهد، حيث رُسمت أغلب المشاهد داخل سيارة لأخ وأخته يتحدثان خلال رحلة سفر طويلة، وهي حبكة منتشرة في السينمات العالمية، وكان أول من استخدمها في السينما العربية هو الكاتب الأعظم نجيب محفوظ، حين كتب سيناريو فيلم «بين السماء والأرض»، حيث انحبس عدد من الناس داخل مصعد إحدى العمارات، كل منهم لديه سرّ وقصة، ويطول مكوثهم في المصعد ويبدؤون في التخلص من آثامهم، باعترافهم بارتكاب جرائم وخيانات وسرقات إلى أن تحل عقدتهم، ويتنوع السرد وينتقل بين شخص لآخر وتتنوع المشاهد كذلك دفعًا للملل، فتصور الوضع خارج المصعد، وتقوم بعملية الفلاش باك مع تكرار الحكي. وفي المقابل، لم يكن في فيلم «سكة طويلة»، أي مشاهد خارج السيارة أو حتى بخاصية «الفلاش باك»، وهو ما دفع المخرج للجوء للمطاردات الكثيرة كما أسلفنا.
***
في تلك الحبكة التي لجأ إليها صانعو العمل، دائمًا ما يلجأ الإنسان للتخلص من آثامه وعلائق الماضي، بأن يتطهر مما ارتكبه من جرائم، لكن لذلك ثمن أيضًا ربما يدفعه حتى وإن تطهر من آثامه، لكن الذي أنقذ الأخوين كونهما مفعولين بهما، كخدمٍ لرغبات أبيهما الظالم الغليظ، فيقرران التخلص من وشائج تلك العلاقة التي يدوران فيها في فلك الظلم، كأنهما مظلتان تمددان ظلمه على باقي الضعفاء. تعلّق مريم على كلمة أخيها ناصر، حين يدعي بأن لا ذنب له فيما يرتكبه أبوه، فتضيف أنها لم تستغل أموال أبيها ولا علاقاته، ومع ذلك أصبحت طبيبة ناجحة يحتاج إلى خدماتها كل من يعمل في المشفى. هنا أدركت مريم بفطنتها أن السلبية ودعم الظلم بالتطبيع معه، أو السكوت عنه مهلك أيضًا، وأن الخطر المحدق بهما لن يقل، إذا لم يتطهر أخوها تطهرًا كاملًا، فحاولت أن تأخذ بيده ليترك عمله مع أبيه. ومع ذلك، بات واضحًا أن الخلاص غير مؤكد، وأن النهاية واردة في أي لحظة، وفي أكثر من مشهد كان الأخوان يواجهان الموت وينجوان بأعجوبة وكأنها فلسفة عن أن النهاية حتى وإن أُجلت فإنها قادمة لا محالة.
كانت النهاية المتوقعة للفيلم، التي هيأ لها المخرج بالتقاطه صورة جوية للسيارة وهي تسير في طريق لا ينتهي تحفه الصحراء من كل ناحية، بعد انتهاء الخطر، وهدوء الموقف، مع دندنات جميلة للأخوين بأغنية سكة طويلة للمطرب «عبادي الجوهر»؛ نهاية مفتوحة ومتناسقة مع أجواء الفيلم، لكن المخرج بشكل مفاجئ قرر مطّ الفيلم لمشهد المواجهة بين الأبناء وأبيهم، بوصولهم حفل الزفاف، متعبين بملابس ممزقة وخدوش وكدمات في الجسد، ليسلموه هدية الزفاف ويقدم ناصر استقالته وتنصح مريم زوجته بالطلاق.
هذا المشهد أغلق الباب لكل التأويلات التي كانت ستنجح النهاية المفتوحة في طرقها، إذ كان المجرم المتعقب لهما، في كل مرة يعود من جديد لمطاردتهما، وفي الطريق أيضًا قتل رجل شرطة تحصّل على إثباتاتهما الشخصية وتحرى عنهما قبل مقتله حيث صدمته السيارة المطاردة، وهناك عشرات الأسباب لعدم النجاة وأسباب أخرى للنجاة، فكان من الأجمل لهذه النهاية أن تترك مفتوحة، بحكم الأسئلة التي طرحها الفيلم على مشاهديه.
ومع ذلك يمكننا القول إن هذا الفيلم أصبح أحد أعمدة السينما السعودية الجديدة، التي بدأت تشهد تطورًا عظيمًا وضعها أخيرًا كواحدة من ضمن السينمات العربية الواعدة.