وائل سعيد
قبل أن يرحل عام 2023، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صورة للنجم العالمي «كلينت ايستوود»، أثناء تصوير فيلمه «الأخير» وفق ما يروج إعلاميًّا. وهي الصورة التي أثارت إعجاب الملايين ودهشتهم، نظرًا لأن المخرج البالغ من العمر 93 عامًا لا يزال في أوج عطائه الذي تنوع عبر مشواره الطويل، بين التمثيل والإخراج ووضع الموسيقى التصويرية والمشاركة في كتابة عدد من الأفلام. وهو ما حدث أيضًا في العام الماضي، حين فاجأ المخرج «ستيفن سبيلبرج» جمهوره، بتحفته «عائلة فابلمان» وهو على مشارف الثمانين، محققًا من خلالها ما لم يستطع تحقيقه عبر مشواره بأكمله.
شهد هذا العام عروض أفلام لمجموعة من مخرجي هوليوود المعمرين ربما كان «سكورسيزي» أصغرهم سنا «81 سنة»، فهناك من تجاوز التسعين مثل مخرج الأفلام الوثائقي الأميركي «فريدريك وايزمان» الذي سافر لفرنسا منذ عامين كي يتعافى من التدخين وعاد من الرحلة بفيلم «قوائم المتعة». يحكي وايزمان في حوار معه كيف اصطحبه بعض الأصدقاء إلى مطعم شهير في فرنسا بجوار شجرة عتيقة، وأثناء انتظار الطعام خطرت على باله فكرة لفيلم عن المكان فقام بعرضها على صاحب المطعم، الذي فكر قليلاً، ثم أجابه «ولم لا؟». الغريب أن تاريخ إنشاء المطعم يعود إلى عام 1930 وهو نفس العام الذي ولد فيه وايزمان.
حول عنصر المكان أيضًا، تدور أحداث فيلم «البلوط العتيق» للمخرج البريطاني «كين لوتش»، 87 عامًا، المعروف بمناهضته للصهيونية وانحيازه للقضية الفلسطينية. تصطبغ أفلام لوتش بالطابع الاشتراكي والأفكار اليسارية. في فيلمه الجديد ينسج لوتش حكايته من خلال «تومي» رجل في منتصف العمر يمتلك عقارًا وحانة تدعى «البلوط العتيق» في إحدى المناطق الخاصة بالطبقة العاملة، وفي قرية مجهولة الاسم تقع في إنجلترا. المكان هنا شاهد على الأحداث، خصوصًا حين يتطور السرد وينتقل بنا إلى تتبع معاناة عائلة وافدة من مهاجري سوريا، حيث لا تزال العنصرية البريطانية تمارس من قبل البعض.
أما مخرج هوليوود المثير للجدل دائما «وودي آلن»، فقد استضاف مهرجان البندقية السينمائي في دورته الأخيرة العرض الأول لفيلمه الأحدث «ضربة حظ»، الذي أعقبه تصفيق اقترب من ثلاث دقائق وكان من الممكن أن تطول هذه المدة لولا أن اندفع آلن خارجًا من الحفل.
يحمل فيلم آلن الرقم خمسين في مشواره الفني وهو يتشابه في كثير من الأحيان مع أفلام سابقة له، خصوصًا «نقطة طلاقي 2005»، متخذًا من تيمة الخيانة الزوجية منطلقًا لحواراته المتشعبة غير المنتهية. في حديث خاص مع مجلة «فايارتي» السينمائية صرح آلن أن فيلمه الجديد قد يكون الأخير في مسيرته؛ فقد سئم من السعي المستمر في البحث عن تمويل لأفلامه. وفي سياق متصل، ذكرت الصحف أن عددًا من النشطاء الحقوقيين نظموا وقفات احتجاجية مطالبين إدارة المهرجان بعدم تسليط الضوء علي بعض المخرجين المتورطين في قضايا العنف الجنسي وفي مقدمتهم وودي آلن ورومان بولانسكي.
مجد وخزلان
في فيلمه «القصر» يصحبنا البولندي العتيد «رومان بولانسكي» في رحلة ساخرة من الكوميديا السوداء تدور أحداثها داخل أحد القصور لقضاء ليلة رأس السنة 1999، حيث نتابع حفلة أبطالها من البشر والحيوانات وغريبي الأطوار، يمثلون طبقات اجتماعية مختلطة «البرجوازية والحاكمة»، أميز من فيهم سياسيون وجنرالات وأطباء ووجهاء وممثلو أفلام إباحية. ربما لا تتشابه الأحداث والمواقف مع فيلم بازوليني الأخير «سالو 1975»؛ إلا أن الأجواء التي يقدمها بولانسكي تشوبها واقعية قذرة، قد تكون فاشية لا تنتهي برحيل أصحابها، وهذا ما يشير إليه في تحديد حفل رأس السنة للعام الأخير في الألفية الثانية، حيث للألفية الثالثة فاشيتها المختلفة وأنظمتها الأورولية المتعددة.
أكمل بولانسكي التسعين من عمره برصيد هائل من المشاحنات وبعض الاتهامات الأخلاقية، وفي أفلامه كثيرًا ما نجده يقتفي الجانب الأكثر عنفًا وقذارة لذلك الكائن المثالي المدعو بالإنسان، كاشفًا عن أحط اللحظات البشرية لأنفس مضطربة طوال الوقت تتفاعل وفق حيز مصنوع – ربما لكونه فلسفيًا أكثر من اللازم – من هنا نجد أن مساحات الصمت في أفلامه تعادل مساحات الحوار؛ خصوصًا تلك الديالوجات الطويلة المتبادلة التي تذكرنا بحوارات «تاركوفيسكي» في بعض الأحيان.
في فيلم «نابليون» يستعيد المخرج الإنجليزي «ريدلي سكوت»، قصة أحد أشهر المهوسين بالعظمة في التاريخ البشري، ويقوم الممثل الأميركي «خواكين فينيكس» بتجسيد هزيل لشخصية بونابرت من منظور أكثر حميمية. إذ يستكشف الجانب الخفي في العلاقة المتوترة بين نابليون ومعشوقته «جوزفين»، وذلك اعتمادًا على عدد من الرسائل المتبادلة بين الإمبراطور الفرنسي وأخيه. أما مخرج الفيلم، فيبدو أن العوالم التاريخية قد استهوته، سواء حدث ذلك من خلال استدعاء حقبة تاريخية بعينها «المبارزة الأخيرة 2021»، أو من خلال شخصيات شهيرة مثل فيلمه الأخير، وقد سبقه فيلم «بيت غوتشي» في العام الماضي ويتناول فيه قصة حياة آل غوتشي ملاك الماركة الشهيرة في عالم الأزياء والموضة.
إيطاليون وقتلة
عرض فيلم «تاكسي درايفر» منتصف سبعينيات القرن الماضي تقريبًا، وسرعان ما جاب العالم حاصدًا الجوائز، حيث قدم الفيلم نموذجًا مغايرًا ومميزًا لفيلم النوار ومزج بينه وبين أفلام الطريق، حينئذ كان لا بد من البحث عن مخرج الفيلم، الذي لم يكن وقتها سوى شاب أميركي من أصول إيطالية لم تمتلئ جعبته السينمائية بعد إلا بعدد قليل من الأفلام، يدعى «مارتن سكورسيزي»، 81 سنة؛ أحد أشهر معمري هوليوود من المعاصرين الآن. أما بطل الفيلم، فقد كان شابًا أيضًا في عمر المخرج ومن أصل إيطالي، إلا أنه يختلف عنه بطول القامة وعدد لا بأس به من الأفلام، رغم ذلك كان لا يزال في مرحلة البدايات وهو «روبرت دي نيرو». ويبدو أن التاكسي الذي جمع بين الاثنين دامت مسيرته طويلا؛ فقد تعاونا على مدار نصف القرن الماضي في تقديم عدد من الأفلام حققت جماهيرية واسعة وحازت إعجاب النقاد مثل: «الثور الهائج، الرفاق الصالحون، شوارع وضيعة… إلخ».
من جديد يلتقي الصديقان في فيلم «قتلة زهرة القمر» عن كتاب أدبي بنفس الاسم، وهو لا يقل عنفًا ولا إثارة عن أفلام سكورسيزي السابقة، لذلك لم يأتِ بجديد يذكر سواء على مستوى حركة الكاميرا وزوايا التصوير في صنع المشهد، أو تحريك ورسم الشخصيات، فضلاً عن استعمال نفس طرق الانتقالات الزمنية. أما على مستوى أداء دي نيرو، فقد كان نسخة طبق الأصل من جميع أدواره القديمة – خاصة ومعظمها مع سكورسيزي نفسه – بفارق بسيط وهو عامل السن، الأمر الذي انتقل أيضًا لبطل الفيلم «ليوناردو دي كابريو»، 49 سنة، وقد كان أداؤه شبيهًا بمن يعافر في ارتداء ثوب ضاق عليه. يتتبع الفيلم قصة إحدى القبائل الأخيرة من السكان الأصليين بأميركا، وكما هي العادة تجاوزت مدة الفيلم ثلاث ساعات لم تكن معظمها يستحق.
في فيلم «اختطاف» ثمة سلطة من نوع مختلف يطرحها المخرج الإيطالي «ماركو بيلوشيو»، 84 عامًا، عائدًا إلى منتصف القرن التاسع عشر من خلال قصة شهيرة لصبي يهودي من عائلة مورتارا، يتم اختطافه وإلحاقه قسرًا بالمسيحية، ما سبب حرجًا للبابوية الكنسية، خصوصًا مع تحول الواقعة لقضية رأي عام في حينها. أجاد المخرج في نقل طابع العصر، سواء على مستوى الملابس والديكور، أو ملامح شوارع وحارات مدينة بولونيا الإيطالية.